الضرورة.. الثورة
حينما يتحدث أحد عن التبعية التي تغرق فيها مصر تقوم الدنيا ولا تقعد، وتنبري ميليشيات السلطة بحملات هجومية صاخبة ومبتذلة على من يقترب من هذه الأمور، مستخدمة كل أشكال القمع المادي والروحي.
رغم كل التزييف الذي تمارسه السلطة لتحسين صورتها فإن إخفاقاتها في ستر عوراتها تتوالى.. وفي نهاية الأمر فإن جبهتها واضحة ومكشوفة.
الجبهة الغامضة التي يجب أن تبذل كل العناية والدأب والحسم لفضحها وكشف مراميها هي جبهة الإصلاحيين الذين يطمسون– بوعي أو بدون وعي– جوهر التناقض الذي ينبغي حله، وبذل نفس الجهد لتوضيح طبيعة الصراع الذي ينبغي تصعيده بشكل متسارع وحاسم على الصعد الطبقية والسياسية والفكرية، خصوصا إزاء النشاط العارم للقوى الإصلاحية في البلاد.
خطر الإصلاحيين أنهم يشيعون نهج تفكيك البرنامج الكفاحي بمكوناته (الوطنية والطبقية والقومية والأممية– السياسية والاجتماعية والديمقراطية) وعزل كل منها عن الآخر بهدف تزييف الوعي الجماهيري ومصادرة تطوير الصراع ضد الأعداء.
نماذج ذلك عديدة. يتمثل أخطرها في محاولة عزل الموقف من «مبارك» عن الموقف من الطبقة التي لعب مبارك دوراً هائلاً في تشكيلها وتنميتها وتمكينها من الهيمنة. وعزل قضية التمديد لـ«مبارك» عن التوريث لـ«جمال مبارك»، وتفكيك قضايا الداخل بعزل الوطني عن الاجتماعي عن الديمقراطي، وعزل الداخلي برمته عن القومي والإقليمي (فلا شأن لنا بحصار غزة والعدوان عليها بدعوى خطر إقامة إمارة إسلامية فيها، وجدار العار تفرضه مشروعية السيادة، ولا شأن لنا بأي مقاومة في لبنان أو العراق... إلخ، أولوياتنا محلية وهمنا محلي فقط) وهكذا يتم إفساح الطريق أمام المشروع الامبريالي الصهيوني.
ثمة وقائع ثلاث أطلت علينا متزامنة، متحدية محاولات الإخفاء والتعتيم، تكشف بجلاء تهافت مواقف الإصلاحيين الذين وفدوا إلى خندق «الإصلاحية» من مختلف التيارات السياسية والفكرية التقدمية والوطنية، رغم أنهم لا يزالون يتخفون خلف انتماءاتهم السابقة التي هجروها تماماً من دون إعلان.
الواقعة الأولى أوردتها صحيفة جزائرية حول ثروات أسرة مبارك التي تزيد عن 40 مليار دولار، ومصادر الحصول عليها. حيث تؤكد التفاصيل المنشورة أن علاقة مبارك بالطبقة الرأسمالية في مصر تتجاوز وحدة الانتماء أو الفكر والموقف السياسي إلى مستوى «الوحدة العضوية» بينهما. إذ يوضح ما هو منشور أن الشركات الرأسمالية الكبرى في مصر تقدم 50% من صافي أرباحها السنوية لأحد أفراد أسرة مبارك. (لا يعتبر مقدار النسبة هو المهم) لكن المهم هو «التوحد العضوي» الذي ينتج علاقة نوعية لا سابق لها.
الواقعة الثانية هي إخفاق ما نسبته 80% من إجمالي الشركات المصرية التي هرعت ولهثت عام 2005 للالتحاق بـ«بروتوكول المناطق المؤهلة» المشهور باسم «الكويز»، حيث لم تتمكن من التصدير إلى السوق الأمريكية. هذا البروتوكول الخطير الذي اشترط أن يدخل ضمن مستلزمات التصنيع في أي منتج مصري يتم تصديره إلى السوق الأمريكية ما نسبته 10.5% مكونات إسرائيلية.
فقط 80 شركة من إجمالي 420 شركة مصرية مسجلة في هذا البروتوكول تمكنت من التصدير إلى الولايات المتحدة، بينما يعلن مسؤول في وحدة الكويز بوزارة التجارة والصناعة المصرية أنه توجد العديد من الشركات المصرية مدينة للشركات الإسرائيلية المصدرة لنسبة المكون الإسرائيلي. وهو ما يؤكد أن هذه الاتفاقية لم تحقق فحسب دعماً للاقتصاد الإسرائيلي على حساب الاقتصاد المصري، ولكنه فتح باب الاندماج بين الرأسمالية المصرية والإسرائيلية من موقع التبعية، بما تجاوز «التطبيع» المرفوض شعبياً إلى وحدة المصلحة بين التابع والمتبوع.
الواقعة الثالثة هي ما ورد في حديث صحفي أجرته صحيفة المصري اليوم مع د0 مصطفي الفقي، والذي أكد فيه عدم إمكانية وصول أحد إلى منصب الرئاسة في مصر يكون عليه فيتو أمريكي أو حتى اعتراض اسرائيلي. إذ تعرض الفقي لحملة شرسة من الإعلام الحكومي. كما مورست ضده ضغوط من مسؤولين كبار، واضطر خلال برنامج تلفزيوني للإقرار بأن ما جاء بالحوار كان دقيقاً لم تجر عليه الصحيفة أي تعديل، وأكد أن كل ما فعلته الجريدة هو أنها صبت البنزين على النار بوضعها هذه العبارة في المانشيت. وأن خطأ الصياغة جاء من جانبه وأن ما حمله الحوار كان رأيه كمحلل سياسي (حسب ما أوردته الجريدة مؤخراً).
هذه الوقائع الثلاث كاشفة عن: الوحدة العضوية بين مبارك وأسرته والطبقة البرجوازية المصرية– وحدة المصلحة لحد الاندماج (من موقع التبعية) بين البرجوازية المصرية والكيان الصهيوني– أن قرار من يحكم مصر هو بيد واشنطن وتل أبيب، وليس بيد الشعب المصري.
هذه الوقائع تدحض أي دعوى للفصل بين «التمديد» لمبارك والتوريث لابنه. فكلاهما مرفوض. أو الفصل بينهما وبين الطبقة المهيمنة، أو دعاوى الانكفاء على الذات والعزلة عن الأمة العربية والإقليم بأسره وعن الصراع العربي- الامبريالي الصهيوني. كما تدحض دعاوى إمكانية أي نهوض وطني على أساس رأسمالي لأنه خيار جوهره التبعية والتفريط والخيانة. وتبرز بوضوح أن تفكيك البرنامج النضالي الضروري لتجاوز هذا الواقع هو جريمة مع سبق الإصرار.
هذه الوقائع الساطعة تؤكد التناقض الرئيسي بين الطبقة العاملة وسائر الكادحين والوطنيين الحقيقيين في مصر، وبين الامبريالية والصهيونية وعملائهما المحليين، وتكشف الدعاوى الواسعة في مصر بأن الديمقراطية بصيغتها البرجوازية كفيلة بتجاوز الكارثة الراهنة. كما تكشف جريمة عزل مصر عن الأشقاء في المحيط العربي– الإسلامي، وكذا قوى التحرر الوطني والتقدم العالمية.
الموقف الوحيد الصحيح هو أن الثورة ضرورة، ويجب عدم الاستمرار في تغييب ذكرها الذي استمر طوال عقدين من الزمن. لقد آن الأوان لطرحها دون خوف أو وجل.