استحقاق لا يمكن تأجيله..
على الدوام تتعرض القوى الشعبية في عالمنا العربي لحروب مفتوحة على كل الجبهات وبكل الوسائل، من جانب القوى الإمبريالية والصهيونية وعملائهم المحليين.
من أهم ميادين الحروب المفتوحة علينا «حرب التزييف بواسطة الإعلام»، ولذلك لم يكن غريباً سعي الحكومات العربية لاتفاقية حول الإعلام، وكذا مشروع قانون «تنظيم البث المسموع والمرئي» الذي تقدم به وزير الإعلام المصري لمجلس الشعب، حيث تصب هذه الاتفاقيات والقوانين في المجرى نفسه الذي تريده القوى المعادية.
حرب الإعلام أصبحت ذات أهمية حاسمة ربما تتساوى مع الحروب المسلحة. وتفضي في كثير من الأحيان إلى النتائج ذاتها «نصر.. وهزيمة». هذا ما أكدته معارك تموز في لبنان عام 2006، إذ لم يقتصر الأمر على كسب المقاومة اللبنانية للمعركة العسكرية، بل امتد إلى المعركة الإعلامية التي كانت بالضراوة ذاتها.
من المجرد إلى الملموس
يتم استدراجنا في كثير من الأحيان، وبواسطة الإعلام المعادي في الخارج والداخل إلى التعايش لفترات طويلة مع الأوهام. من ذلك ما حدث منذ سنوات أثناء الانتخابات التي أجرتها العصابات الصهيونية في فلسطين المحتلة، وكان قطباها الصهيوني «نتنياهو» عن حزب الليكود، والصهيوني «باراك» عن حزب العمل. وتكاثرت التحليلات والتنظيرات لإشاعة جو من التفاؤل الكاذب بقدوم باراك إلى الحكم. وجاء باراك وتبين أنه لا يغرد خارج السرب الصهيوني وتطورت الأمور إلى ما نحن فيه.
كان التزييف جلياً - بوعي وبدون وعي- بسبب غياب ثقافة مقاومة لا تقتصر فقط على الصياح ضد العدو وتوجيه السباب له، ولكنها لابد أن تكون ثقافة مبنية على العلم، مدركة لمنظومة التناقضات الماثلة، ولاستراتيجيات القوى المعادية وأهدافها البعيدة وتكتيكاتها ووسائلها... الخ، وبالدقة الاهتداء بإستراتيجية عربية على المستوى العربي العام وعلى المستوى القطري أيضاً.
مع «أوباما» المشهد يتكرر
لم نعِ درس «باراك» وتكرر المشهد مع «أوباما». وتم تسريب صهيو-أمريكي عن أصول أوباما الأفريقية والإسلامية. وتم افتعال معركة داخل الولايات المتحدة بشأن هذا الأمر، حيث كثر الكلام عن خطر أن يأتي «حسين أوباما» رئيساً للولايات المتحدة! وراح الإعلام العربي، والمصري بوجه خاص يروج لهذا المرشح الديمقراطي وكأن كل ما نعانيه في العراق وفلسطين... الخ سوف ينتهي على يديه المباركتين.
غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن في زيارة أوباما للمنطقة وتصريحاته من بلدان عربية وكذا من فلسطين المحتلة على السواء بانحيازه المطلق للعدو الإسرائيلي، الذي وضع على رأسه «الطاقية اليهودية». وراح أوباما يطلق الوعود للعدو بسخاء شديد.
وعلى الضفة الأخرى في بلداننا راح من هللوا فرحاً بـ«أوباما» يبدون دهشتهم، وراح السذج الذين انطلت عليهم الخدعة يطلقون لعناتهم. وأتضح أننا يمكن أن نلدغ من الجحر ألف مرة ومرة دون أن نتعلم.
الخدعة
يعمد المتمسكون بالخيار الرأسمالي والتبعية في بلداننا، الصرحاء منهم والمتخفون وراء مواقف صارخة وجوفاء، إلى إخفاء الأمور الأكثر جوهرية بعمليات خداع لا ينبغي أن تنطلي علينا.
- يخفون مثلاً أن الحزب الديمقراطي هو الموقع الخصب لغالبية اليهود الأمريكيين تاريخياً وحاضراً، وأنه بذلك لا يقل انحيازاً للعدو الصهيوني عن الحزب الآخر، وأن الوقائع التاريخية تقول أن «ترومان» الديمقراطي هو أول من اعترف بالكيان الصهيوني، وأن «جونسون» الديمقراطي هو من وقف خلف عدوان 1967، وأن «كارتر» الديمقراطي ومستشاره للأمن القومي ووزير خارجيته فيما بعد «كيسنجر» اليهودي هو من لعب الدور الأساسي في الصلح المصري مع العدو الذي انتهى بنا جميعاً إلى الكارثة القائمة، وأن «كلينتون» الديمقراطي هو من ضغط على «عرفات» ليقدم تنازلات تم رفضها وانتهى الأمر بـ«عرفات» مسجوناً في مقره ثم مقتولاً.
أي أن هذا الحزب الديمقراطي كان حاضراً وفاعلاً في كل منعطف حاد في صراعنا مع العدو، بل وفي الحقيقة في السياسة العالمية (الاستخدام الأول والأخير للسلاح النووي، حرب كوريا، حرب فيتنام، حصار كوبا،...الخ).
الوجه الآخر للخدعة
- الوجه الآخر للخدعة، وهو يعتمد على وقائع صحيحة، ولكن هذه الوقائع رغم سلامتها تشتبك مع الشكل دون المضمون، وهي مسألة لا يكف الكثيرون- حتى من الوطنيين ذوي النوايا الحسنة- عن ترديدها بشكل دائم، من أن القرار في الولايات المتحدة يصاغ في مؤسسات ومراكز أبحاث هائلة، وأن ذلك يؤكد عدم إنفراد الرئيس باتخاذ أي قرار وبالتالي فيداه مغلولتان.
لكن ذلك ينهض على تجاهل أو جهل لأنه لا توجد مؤسسة «فوق طبقية». وبالتالي فإن الإدارة الأمريكية والرئيس الأمريكي أيا كانوا يعتمدون على مؤسسات ذات طابع طبقي. وأن القوى التي أسست وأقامت وتمول وتوجه وتضع الأهداف الموكل لهذه المؤسسات دراستها وصياغتها واستخلاص المهام والخطط، هي قوى «طواغيت المال، والمجمع العسكري الصناعي، احتكارات البترول ...الخ».
أي أن المؤسسات التي تصوغ الإستراتيجية والقرار السياسي مرتبطة بالطبقة السائدة في أي مجتمع وفي ظل أي نظام اجتماعي.
في الولايات المتحدة الأمريكية تفرز النخبة الطبقية المتحكمة نخبتها السياسية، ولا يمكن بأية حال السماح باختراق النخبة السياسية بأشخاص يخرجون بالقرار السياسي عن إستراتيجية رأس المال الأمريكي متعدي القوميات.
الذي يمكن أن يختلف في ظل الثنائية الحزبية الأمريكية هو أسلوب الوصول إلى الغايات النهائية، وهو ما تحكمه الدوافع والأزمات الداخلية لرأس المال والمهام اللازمة لإمكانيات نموه وتوسعه وبقائه، وكذا توازنات القوى الدولية، وقبلها القدرة على الصمود والممانعة والمقاومة لدى الطرف الجاري استهدافه.
نظل حتى الآن نحبو في بداية شاقة لفهم عدونا، لم نقتحم- ربما من واقع استخفاف، أو إحساس بالدونية، أو عدم إدراك- القضية الأهم، وهي صياغة إستراتيجية عربية بجهد غير رسمي رغم ما تزخر به بلداننا من إمكانيات بشرية قادرة على إنجاز هذا الأمر.. حتى نخرج من التيه الذي نعيشه ومن التضليل والزيف الذي يعمدون زرعه في عقولنا. وحتى يمكننا إقامة حشد شعبي عربي واسع موحد الإرادة والموقف والعمل والتصدي لأعدائنا.
إن هذا الأمر في الواقع ليس مجرد استحقاق لا يمكن تأجيله ولكنه استحقاق حياة أو موت.