ما الإجابة الصحيحة على سؤال: ما العمل؟
تسارعت الأحداث المأساوية في مصر بشكل كبير للغاية. أحداث خطيرة جداً تتوالى، لا يتم غالباً التعامل معها بالجدية والمسؤولية الواجبة، رغم أن النتيجة المؤكدة لها هي أن مصر قد ضلت الطريق تماماً إلى الوجهة الصحيحة، وهى التطور السلمي، تجنباً لمخاطر وويلات وعذابات تفوق حد الاحتمال.
في أقل من أسبوعين تلاشت أية مظنة لهذا التطور السلمي الذي نريده. وأصبحت نداءات الإصلاح حتى من أشد الناس إخلاصاً بلا أية قيمة. وتساقطت الأقنعة عن وجوه «الإصلاحيين» من كل التيارات السياسية والفكرية، الذين يسعون إلى مجرد تهذيب سلطة الطبقة الحاكمة مقابل قضمة من كعكة الوطن، وخداع الناس بجعل هذه السلطة مقبولة لديهم.
• الحادث المفجع الذي جرى في مدينة نجع حمادي بجنوب مصر، حيث تم اغتيال ستة من المسيحيين لدى خروجهم من الكنيسة بعد أداء الصلاة ليلة عيدهم، ومعهم شرطي مسلم هو حارس الكنيسة.
• ما تقدم به أحمد عز وهو الشخص الثاني في لجنة سياسات «جمال مبارك» وأمين التنظيم في حزب الجماعة الحاكمة، لدى مناقشة قانون حماية الآثار.
• الحديث الصحفي الخطير الذي أدلى به مصطفى الفقي رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب، وهو أحد أهم المطلعين على خفايا كواليس السلطة، لصحيفة «المصري اليوم».
تحمل هذه الأحداث المتزامنة دلالات شديدة الأهمية والخطورة. نتناولها بإيجاز شديد.
دلالة «قتل المسيحيين» هي أن الفتنة الطائفية كامنة، وأنها تتصاعد بسرعة بعكس ما تدعيه السلطة. لأن أساسها الموضوعي قائم ويتعمق حضوره. يتمثل في الإجهاز تماماً على المشروع الوطني، في تشابك وتكامل مع الأجندة الامبريالية– الصهيونية، وسياسات السلطة الحاكمة.
إن تاريخ مصر الحديث والمعاصر القريب من ذاكرة المصريين، والذي عاصرت أجيال حاضرة مراحله القريبة يشهد بأن الوحدة الوطنية تتحقق بدرجة هائلة من المتانة والقوة حينما يتحقق أو (حتى) تلوح في الأفق إرهاصات مشروع نهوض وطني مستقل. وأن الفتنة الطائفية تشق طريقها بقوة في مراحل الانحطاط المتمثل في تنامي الظلم الاجتماعي واختفاء دور الدولة المحوري في الحياة الاقتصادية– الاجتماعية. أي اختفاء مشروع النهوض الوطني المستقل.
الآن وبعد اغتيال المشروع الوطني تحولت السلطة في مصر إلى مجرد حارس لمصالح اللصوص المحليين والأجانب. وتنامى دورها كسلطة جباية من الفقراء والكادحين للإنفاق على مهامها. لقد امتدت الجباية بشراهة إلى كل المجالات، آخرها قانون «الضريبة العقارية» الذي سيمتد بطرق ملتوية إلى مساكن الفقراء وليس الأغنياء والمتوسطين وحدهم، بعد أن شملت الضرائب ما نأكل ونشرب ونلبس، ولم يتبق سوى فرض ضرائب على ما نتنفسه من هواء ملوث وعلى المقابر لمن يملكون قبوراً.
لقد لعبت الدولة المصرية الحديثة دوراً– مهما كان متدنياً– حتى قبل ثورة يوليو وإجراءاتها التقدمية، لضمان قدر من التوازن ولو في أدنى حدوده، مثل البدء في نشر التعليم المجاني والمستشفيات الحكومية المجانية للفقراء. وهكذا وفي إطار دور الدولة– تاريخياً– تحقق وتمت صياغة النسيج الاجتماعي والوطني، وتلاشى التعصب الديني والعنصري والعرقي إلى حد كبير، وانصهر كل من وفدوا إلى مصر في هذا النسيج المتين.
الآن على خلفية ما جرى ويجري من إنهاء وحشي لكل ما تحقق على كل الأصعدة، لا تشتعل الفتنة فحسب بين المسلمين والمسيحيين، بل يجري تسعير التعصب الديني، حيث تقوم بذلك رموز دينية مرموقة داخل المؤسسة الدينية الرسمية ومن خارجها بشكل مباشر وصريح إلى حد تكفير الناس من المذاهب المختلفة وحتى من المذهب السائد. أو غير مباشر عبر التأكيد على «الرضا بالمقسوم» وعدم مناوأة رجال الأعمال لأن الرزق مكتوب ومقدر مهما كان قليلاً، وطاعة أولي الأمر (مهما ظلموا واستبدوا) وإصدار الفتاوى ضد مقاومة المحتل الأجنبي وعدوانه بشكل كامل أو بشكل انتقائي (ذراً للرماد في العيون). وفي الخلاصة صرف الناس عن النضال الوطني والطبقي وتكريس الحالة السائدة.
إلى جانب ذلك واستناداً إلى هذا الواقع المر تجري عمليات عبث أمريكي صهيوني ليس لتمزيق الوحدة الوطنية بين المصريين من مسلمين ومسيحيين فحسب. ولكن داخل «النوبيين» و«بدو سيناء» وسكان واحة سيوة «الأمازيغ» وكلهم مصريون أصلاء منذ تشكلت مصر كوطن.
دلالة الموضوع الثاني الخاص بالسعي لإقرار حرية التجارة في الآثار المصرية, فرعونية وقبطية وإسلامية) هي أنها مسألة تحقق أهداف الأجندة الصهيو– امبريالية فيما يتعلق بطمس الهوية الوطنية، وإذ يعتبر التاريخ المشترك هو أحد مكوناتها، فإن تدمير هذا التاريخ بمحو «آثاره» يحقق الهدف ويعزز ذلك ما أثير منذ بضعة سنوات لتحويل دراسة التاريخ إلى مادة اختيارية لمن يرغب من الطلاب. والهدف هو طمس الذاكرة التاريخية الوطنية.
لقد سرق اللصوص والأفاقون منذ بداية الهجمة الغربية على المنطقة– ولا يزالون– جانباً هائلاً من الآثار المصرية. بل قدم السادات معبداً فرعونياً هدية للولايات المتحدة، أي أنه أهدى «حضارة دولة لدولة بلا حضارة». وفي السياق يريد رموز الطبقة الحاكمة إضفاء شرعية قانونية على اللصوصية ونهب تاريخ مصر.
لكن الأخطر هو ما ورد على لسان قطب حزب الجماعة الحاكمة مصطفى الفقي في حديثه الصحفي المطول، وهو نصاً «لا أعتقد أنه سيأتي رئيس قادم لمصر وعليه فيتو أمريكي ولا حتى اعتراض إسرائيلي للأسف». وسبق ذلك في الحديث نفسه ما يؤكد توريث السلطة لجمال مبارك!!
هنا تسقط تماماً جميع الدعوات الإصلاحية التي تتصور إمكانية إجراء أية إصلاحات في ظل السلطة الحالية المدعومة فقط من الأمريكيين والإسرائيليين بشهادة شاهد من أهلها.
لم يعد هناك منطق يعزز الحديث عن انتخابات رئاسية أو برلمانية حرة، أو عن «ضمانات» بهذا الصدد، أو عن حلم «المواطنة المتساوية» أو أضحوكة «المجلس الانتقالي» أو «الجمعية التأسيسية» أو «تعديل الدستور القائم»... الخ.
لم يعد جمود العقول والأفكار عند الأفكار الإصلاحية التي تجاوزتها التطورات الجارية موقفاً مجدياً. وإنما يلزم لإجراء التغيير الذي ينقذ الوطن قبل أن يتمزق تماماً هو البحث الجدي عن الإجابة الصحيحة على سؤال: ما العمل؟