حينما تتحرك الجماهير
على مدى ما يزيد على ثلاثة عقود، بالدقة طوال حكم السادات ومن بعده مبارك، كانت تعلو الأصوات لإزالة البيروقراطية. لم تكن تلك الأصوات التي تصم الآذان موجهة للبيروقراطية والتعقيدات التي تواجه المواطن البسيط في تعاملاته اليومية مع الجهات الحكومية. لكنها كانت تستهدف كل حوائط الصد أمام البرجوازية التابعة ولإخراج الدولة ورأس المال العام تماما من الميدان الاقتصادي، وتحويلها إلى دولة حارسة لمصالح الطبقة الجديدة، وكانت الحجج لذلك دائماً– ولاتزال- هي تسهيل الاستثمار الداخلي والخارجي وتحقيق الازدهار الاقتصادي والاجتماعي وتوفير فرص عمل للشباب!
الخروج الكبير
كانت بداية الخروج الكبير من الميدان الاقتصادي، هي الإنهاء المبكر لسيطرة الدولة على التجارة الخارجية خصوصاً في مجال الاستيراد، بتوزيع 2000 توكيل كانت بيد القطاع العام على أفراد، وهذه المعلومة أوردها الأستاذ هيكل في برنامجه الأسبوعي على قناة الجزيرة. كانت الحجة تتجلى في مقولة إنهاء الانغلاق الاقتصادي، في حين أن وجود 2000 توكيل لشركات أجنبية ينفي ما يسمى الانغلاق الاقتصادي، مثلما تشهد التجارة الخارجية الواسعة لمصر مع أفريقيا ودول المعسكر الاشتراكي (سابقاً) ومختلف دول العالم، وأن سيطرة الدولة استهدفت ضبط الأداء الاقتصادي والحفاظ على موارد البلاد من العملة الأجنبية ولتحقيق التنمية الاقتصادية بشكل مستقل نسبياً الخ... وهو مالا ترضاه أو توافق عليه الامبريالية والصهيونية.
وهكذا يتبين بوضوح كيف كانت بدايات صياغة الطبقة الحاكمة وفق أنسب «معايير الجودة» الملائمة لمصالح الامبريالية والصهيونية ولتكون منذ الولادة تابعة ولا علاقة لها بالإنتاج والصالح الوطني ومصير الشعب.
وبحركة طليقة من كل قيد اندفعت هذه الطبقة لتخريب الاقتصاد، وممارسة النهب.
عشرات الآليات استخدمتها هذه الطبقة لإحكام هيمنتها، منها شراء أراضي الدولة وإعادة بيعها بآلاف أضعاف سعر الشراء، وكذا الفساد والأعمال غير المشروعة. قبل وأثناء وبعد تدمير البناء القانوني والدستوري في البلاد وإحلال البناء الملائم تماماً لمصالح الطبقة الحاكمة.
أجريوم.. الغاز كنماذج
لقد تم دفع البلاد إلى هاوية لا قرار لها. لم يعد الجوع والبطالة والإملاق المطلق للملايين وكنس الحقوق الاجتماعية..الخ.. لم يعد ذلك هو التعبير عن الكارثة ولكن ممارسات متواترة تمثل عناصر جديدة في عملية تدمير الوطن.
واقعة شركة «أجريوم» الكندية تشكل نموذجاً واضحاً. وهنا أنوه إلى أن كندا التي تعادل مساحتها قارة ويسكنها ما يوازي ربع سكان مصر تقريباً، جاءتنا بمشروع من أكثر المشاريع تخريباً للبيئة «مصنع كيماويات». فكل شيْ عندنا رخيص بما في ذلك الإنسان المصري، واختاروا مدينة دمياط ومصيف رأس البر. لكن الكارثة الحقيقية تكمن في جريمة تعامل السلطة لتمرير المشروع. فكانت الخطوات كما يلي:
ميناء دمياط أعطى للشركة القابضة للبتروكيماويات التابعة لوزارة البترول كل التسهيلات اللازمة.
الشركة القابضة للبتروكيماويات أعطت لشركة «أجريوم» الرخصة والغاز الرخيص والموقع والإعفاء الضريبي. بعد أن أوفت أجريوم بما عبر عنه السفير الكندي بـ«العمولات».
هيئة المجتمعات العمرانية أغمضت العين عن نقل أرض المشروع من الشركة القابضة للبتروكيماويات الى الشركة الكندية دون مراعاة الشروط القانونية خصوصاً سداد ثمن الأرض بالكامل.
جهاز شؤون البيئة وافق بعد أن تنازل عن الشروط التي سبق أن وضعها لتلتزم بها «أجريوم».
رئيس مجلس الوزراء وافق
هيئة التنمية الصناعية المنوط بها بموجب قانون إنشائها «الهيمنة الكاملة والإشراف الكامل والمتابعة الدقيقة لجميع المشروعات الصناعية في مصر» لم تحرك ساكناً إلا بعد موافقة رئيس الوزراء.
وهكذا تمكنت الشركة الكندية من إنهاء كل الإجراءات وموافقة كل الهيئات بما في ذلك رئيس الوزراء بالمخالفة للقانون.. ولكن للحقيقة دون أية بيروقراطية سخيفة!!
بيع الغاز المصري للعدو الصهيوني بدوره كارثة. إذ لم تتضح حقائق الموضوع الذي صور بأنه من أسرار الدولة(!) ولم يتم الرجوع إلى مجلس الشعب لمناقشة الاتفاقية، ولم يتم معرفة سعر البيع بدقة، وكذا بنود الاتفاقية. ثم رددت بعض الصحف مؤخراً– ولذر الرماد في العيون ولمحاولة إخفاء الجريمة، بأن شركة مصرية تشتري الغاز من الحكومة ثم تبيعه للعدو الصهيوني، وبالتالي فالعملية ليست اتفاقية دولية تتم مناقشتها في مجلس الشعب. وهذا «عذر أقبح من ذنب» كما يقول المثل الشعبي.
فهل حدثت هذه الكوارث– ومثلها الكثير وبشكل دائم– في إطار محاربة البيروقراطية وتسهيل الاستثمار؟
لكن المهم هو أن الشعب المصري تتصاعد مقاومته. وهنا أهمية أن تكون الجماهير هي الطرف الرئيسي في الصراع. وتم تجاوز أساليب النخبة الحزبية المفلسة القابعة داخل مقرات أحزابها دون فعل ايجابي.
لقد انتفض مواطنو مدينة دمياط وانتصرت إرادتهم ومنعوا إقامة المشروع على أرضهم. وبزغت حركة تتسع يوما بعد يوم ضد بيع الغاز للعدو وتم رفع دعوى منظورة أمام القضاء. وانتفضت الجماهير في مدينة البرلس من أجل الخبز وقطعت الطريق الدولي، والأهم هو بداية تبلور «المعارضة الجديدة» من روافد عدة بعيدة عن أحزاب النخبة التي تلاشت واقعياً.
إن المعركة تزداد قوة يوماً بعد يوم، لأن الجماهير قد دخلتها كطرف رئيسي، وبقي أن يتم لم شتات الحركة الجماهيرية الواسعة حتى يتحقق النصر. وهو ما يجري على أرض الواقع.