شايلوك.. يأتينا من جديد (3)
كان انتقال رأس المال اليهودي من المجال الربوي إلى المجال العقاري يمثل مرحلة خطيرة في الهيمنة على الاقتصاد المصري. وصلت هذه المرحلة بعد السيطرة على «اتحاد منتجي الإسكندرية العام» إلى فتح الطريق للسيطرة على البورصات، بما أدى لتركز دورة رأس المال «القطنية» في أيديهم. ومن خلال المضاربات والتلاعب وانخفاض الطلب البريطاني على القطن المصري بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية وانخفاض أسعار القطن تراكمت الديون على كبار ملاك الأراضي، وبدأت الحجوزات العقارية، وهو ما مكن رأس المال اليهودي من الانتقال إلى مرحلة رأس المال العقاري نتيجة نزع ملكيات الأراضي من المدينين. وتحولت الأراضي إلى مجال للمضاربة التجارية متجاوزة المضاربة على المحاصيل. وهكذا تحقق تراكم سريع لرأس المال اليهودي. وخلال الفترة من 1900 إلى 1907 أقام اليهود أكثر من 80 شركة تعمل في مجال رهن وبيع واستصلاح الأراضي.
العبور من الاقتصاد إلى السياسة .. مصر في قلب المخطط الصهيوني :
من قبل إعلان المؤتمر الصهيوني العالمي في «بال» بسويسرا عام 1897 حاول «مارولد باروخ» المولود في القسطنطينية عقد مؤتمر صهيوني بالقاهرة بعد وصوله إليها، معتمداً في ذلك على الرأسماليين اليهود في تجمع القاهرة والإسكندرية (خصوصاً عائلات موصيري– منشة– سوارس– طوبي).
بصرف النظر عن صراعات قوى الرأسمالية العالمية «الأوربية» فإن تحركات الرأسماليين اليهود في مصر قد جرت في إطار توازنات تسمح بأن تغطي تحركاتهم مجمل الحركة اليهودية في أوربا. اذ أن الهجمة اليهودية على مصر واستنزافها قد وضع الاقتصاد المصري في قلب المخطط الذي تقاطعت فيه مصالح الرأسمالية العليا اليهودية مع المصالح الرأسمالية للمتروبولات الاستعمارية.
ودون الدخول إلى تفاصيل المساعي والألاعيب اليهودية على كل القوى الأوربية مضافاً إليها الدولة العثمانية فلقد استقر الأمر في نهاية المطاف على مشروع «وايزمان» الذي جعل من مصر منطقة عبور أو منصة انطلاق للاستيلاء على فلسطين. وهنا يبرز الدور الخطير للرأسمالية اليهودية في مصر الموالية لبريطانيا وعلى رأسها عائلات «موصيري– منشة– سوارس» التي أدت دوراً قوياً في تمويل اقتصاديات الحركة الصهيونية في مصر، وتم تنصيب «جاك موصيري» كرئيس للتجمع الصهيوني في البلاد، علنا وعلى رؤوس الأشهاد.
نقلة نوعية جديدة :
كثيرة جداً هي التفاصيل والأحداث في هذه المرحلة (الربع الأول من القرن العشرين). لكن حدثاً مهماً للغاية ينبغي التوقف عنده، وهو إعداد «الفيلق اليهودي» من اليهود المقيمين بمصر بداية الحرب العالمية الأولى، والذي وصل تعداده إلى 11277 فردا من بين إجمالي اليهود في مصر البالغ عددهم 54932 فرداً في عام 1917. وهنا يتضح الحجم الكبير للفيلق الذي تولى تثبيت التحالف اليهودي مع الامبرياليين المنتصرين وأكد الدور الوظيفي اليهودي والذي لعب دورا حاسماً فيما بعد في اغتصاب فلسطين. حيث أشرفت الجماعة اليهودية بمصر على إنشائه، إذ قدمت عائلات قطاوي– ليون كاسترو (اليوناني الأصل)– إدجار سوارس الدعم المادي اللازم. وطالبوا سلطان مصر آنذاك «حسين كامل» في عهد وزارة «حسين رشدي» بتوفير كافة الامكانيات لمعسكرات الإعداد بقيادة اليهودي «إدجار نجار».
عقب قيام الفيلق اليهودي وإعلان «وعد بلفور»، رحل عدد وافر من العمالة الفنية اليهودية إلى فلسطين وسط ترحيب البرجوازية المصرية تحت وهم أن ذلك سيساعد على نمو التجارة أمام الصناعات المصرية. لكن العكس هو ما حدث، إذ نمت الصناعة في المجتمع الصهيوني الجديد في فلسطين، وتحولت إلى خطر على الصناعة المصرية من جراء دعم الرأسمالية اليهودية والغربية لها، والقيود التي وضعها هؤلاء على مرور التجارة المصرية إلى المشرق العربي وايران عبر فلسطين.
لكن الأخطر هو أن هذه القوى العمالية والبرجوازية الصغيرة اليهودية التي رحلت من مصر إلى فلسطين سرعان ما أعلنت صراحة عن طموحها لاقامة دولة في فلسطين (أي إسرائيل الحالية). بل تجاوز الأمر ذلك إلى المطالبة عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى بالاستيلاء على العريش (شمال سيناء).
بالتزامن مع كل ذلك استمر تنامي الهيمنة اليهودية. إذ بلغت الديون المستحقة للبنوك اليهودية على المزارعين المصريين في بداية الأزمة الاقتصادية العالمية (1928) حوالي 33.5 مليون جنيه للبنوك اليهودية. ووصل عدد القضايا المنظورة أمام المحاكم المختلطة إلى 3000 قضية للمطالبة بمبلغ 40 مليون جنيه أي أكثر من كل ايرادات الدولة المصرية في ذلك العام (1931).
ومع اقتراب انجاز المشروع الصهيوني آثرت الرأسمالية اليهودية في مصر تفضيل السيولة النقدية والأصول المنقولة على التوظيف العقاري، بعد أن أدى دوره في تعظيم التراكم المالي.
والتزمت الحكومة المصرية بسداد الديون وتحصيلها بمعرفتها من المدينين، بما أتاح الفرصة للرأسمالية اليهودية للانتقال إلى قطاعات الخدمات والصناعات التحويلية، إلى جانب تصدير رأس المال من مصر إلى الجماعات اليهودية في فلسطين.
ولم تكتف الرأسمالية اليهودية بحماية القوى الامبريالية لها، بل استقطبت إلى شركاتهم عدداً من أقطاب النخبة السياسية من كبار ملاك الأراضي بينهم من شغلوا مناصب رئاسة الوزراء مثل: يحيى إبراهيم– إسماعيل صدقي– عمر سلطان– مدحت يكن– عدلي يكن. بل تم اختراق أول بنك وطني (بنك مصر) الذي تأسس عام 1920. حيث قام «قطاوي» بإدخال «جوزيف شيكوريل» لمجلس إدارته في العام التالي لتأسيسه. ورغم تمرير هذا الاختراق فقد وقف اليهود ضد رغبة طلعت حرب مؤسس البنك ورئيسه لافتتاح فرع له في فلسطين عام 1924. وزادوا على ذلك بأن طالبوا حكومة الانتداب البريطاني بتشكيل لجنة لبحث إمكانية إصدار عملة في فلسطين بديلة عن الجنيه المصري. باعتبار تلك خطوة لاستقلال فلسطين (أي قيام إسرائيل).
وتيرة عالية من الزحف «النوعي»:
تولى «يوسف قطاوي» وزارة المالية في حكومة «زيور» بعد إقالة حكومة سعد زغلول. وهللت الصحافة اليهودية في مصر لهذا الأمر. كانت الحكومة مرفوضة شعبياً. ولكنها كانت موضع رضى اليهود، ليس فقط لتولي واحد منهم وزارة المال ، ولكن « زيور» كان متفهماً لمطالب الجماعات اليهودية الموالية لتركيا وألمانيا في إطار «الحركة الصهيونية».
لقد استمر الزحف (كمياً ونوعياً) ليصل إلى مختلف الأنشطة الاقتصادية، وعلى رأسها البنوك. حيث العائد الكبير من ناحية، والسيولة المالية من ناحية أخرى. للوفاء بمتطلبات تمويل المشروع الصهيوني واستنزاف ونهب الاقتصاد المصري.
ويكفي كمؤشرات فقط أنه من بين شبكة البنوك اليهودية (أي كل البنوك تقريباً عدا بنك مصر)، فقد كانت 33 أسرة يهودية تسيطر بالكامل على أكبر تسعة بنوك. وأنه من بين شركات قطاع النقل بالسكك الحديدية الفرعية والملاحة البحرية، كانت 12 أسرة يهودية تسيطر على 5 شركات منها. وكان من أهم هذه الأسر: رولو– موصيري– كورييل– عدس ) الذين سنأتي على جوانب من أدوارهم فيما بعد.