سلطة تترنح.. هل من أفق؟
أفلست السلطة المصرية .. لا يفصلها الآن عن إشهار ذلك الإفلاس سوى أجل قصير.. فقد افتضح أمرها محلياً ودولياً. سدنة المعبد من النخبة الحاكمة والغالبية الساحقة من المعارضة نفذت ذخيرتهم ، وتلاشت تماماً وبسرعة آثار التزييف ومخاطبة عفوية البسطاء بالمخاطر على الأمن القومي المصري والسيادة الوطنية بادعاء خطر الأشقاء، وليس الخطر الماثل من الأعداء الصهاينة والأمريكيين.
يبدو أن الجدار الفولاذي يتحول حثيثاً ليكون جداراً بين عهدين. يمكن اكتشاف ذلك بوضوح من سماع المواطنين العاديين المتداخلين تليفونياً خلال برامج تليفزيونية عن الجدار ومعارضتهم الشجاعة والصريحة للمواقف المشينة للسلطة إزاء الأشقاء، أكثر من سماعه من الأكثرية الساحقة من النخبة التي تضع حساباتها الضيقة وعلاقاتها ومصالحها لدى الحديث عن هذا الموضوع وغيره.
الجماهير أصبحت أكثر وعياً وجرأة، بعكس النخب الإصلاحية والمتهادنة والمقايضة. آخر تجليات ذلك اتساع الدوائر المعارضة لجدار العار ولحصار غزة ومنع قافلة «شريان الحياة» رغم عمليات الحصار الأمني بحشود غير مسبوقة للوقفات الاحتجاجية، خشية أن تتحول إلى مظاهرات لا يمكن السيطرة عليها. بل وصل هلع السلطة إلى فرض حصار على مجموعة من الشبان الفرنسيين أتوا إلى القاهرة للاحتجاج أمام سفارتهم في مصر تضامناً مع أشقائنا في غزة. تمنيت لحظة مشاهدتي لقوات الشرطة التي تحاصرهم أن يكون لنا في سيناء ربع هذا العدد من الجنود.
الموقف الجماهيري من الجدار والحصار ومنع القافلة يضيف زخماً إلى الرفض الواسع لسياسات السلطة. ويبدو أن الذاكرة الجمعية للمصريين قد استعادة سنوات ما بين 1948 و1952 أي السنوات التي أعقبت اغتصاب فلسطين. إذ عمق اغتصاب فلسطين الأزمة في البلاد.
عشرات الفعاليات والتحركات والحركات تتم وتتشكل في مواجهة السلطة، وإن كان يغلب عليها الطابع الإصلاحي. ولكن الموقف الجماهيري الأوسع يشي بأن السلطة لن تتمكن من السيطرة على الموقف طويلاً.
في خضم الأزمة الشاملة في المجتمع، ومع بناء «جدار العار» وحصار غزة ومنع القافلة، يستقبل «مبارك» رئيس وزراء الكيان الصهيوني الذي يرفض بصلف كل مطالب النظام الرسمي العربي المتواضعة والوضيعة. وكأنه بهذا اللقاء يعلي شأن تحالف واقعي بين السلطة المصرية والكيان الصهيوني رغم التمزقات التي أحدثتها السياسة الخارجية المصرية في العلاقات مع الكثير من البلدان العربية والإسلامية وغيرها!!
يكون التساؤل عما إذا كانت السلطة المصرية تستند في وجودها واستمرارها على علاقتها مع الكيان الصهيوني والامبريالية الأمريكية تساؤلاً مشروعاً وفي محله. رغم أن الامبريالية الأمريكية والامبريالية عموماً تعاني من تراجعات وهزائم على كل الصعد. وأصبحت هيبتها في الحضيض، بكل تأثيرات ذلك على الكيان الصهيوني الذي افتضحت طبيعته على المستوى العالمي بشكل لا سابق له منذ قيامه، بما يؤكد بداية العد التنازلي لنهايته.
هلع السلطة المصرية وأزمتها، وتراجع وهزائم الامبريالية والكيان الصهيوني الذي يعاني منذ هزيمته عام 2006 يدفع بهم جميعاً مع الإحساس بانسداد الأفق إلى المزيد من العنف والعدوانية والوحشية كخيار وحيد. وهو ما نشاهده مؤخراً في اليمن، والزج بعملائهم لإثارة الاضطرابات في إيران... الخ. وهذا يعني أن المنطقة العربية كلها مرشحة لعمليات عدوان واضطرابات وفوضى لن تنجو منها مصر. غير أن السلطة لا تضع ذلك في حسابها، وما يعنيها في الأساس التشبث باستمرار اغتصابها للثروة وللسلطة وان كان الثمن مصادرة أي إمكانية للتطور السلمي في البلاد.
ما يفاقم الخطر هو أن التحركات الواسعة في مصر مبعثرة ولا يلوح في الأفق القريب إمكانية تجميعها من ناحية، كما يغلب عليها الطابع الإصلاحي من ناحية أخرى.
إن المسكوت عنه من الجميع، هو أن الطابع الإصلاحي للمطالب النخبوية يجهل أو يتجاهل تماماً أن المطلوب ليس «إعادة اختراع العجلة» التي أنجزنا صنعها وتسييرها منذ أكثر من خمسين عاماً، وأنه أياً كانت عيوب هذه «العجلة» التي سرنا بها حتى بدايات السبعينيات من القرن الماضي، قبل أن ينحيها السادات الذي تعلق بركب التبعية والصلح المشين مع العدو الصهيوني والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والإفقار والتفاوت الطبقي... الخ. وتبعه في ذلك مبارك بدأب شديد. وأننا يمكن أن نعيدها بعيوب أقل وكفاءة وتطور أفضل. لا يريد هؤلاء النخبويون الإصلاحيون (شكلاً) أن يتطرقوا إلى استحقاقات أساسية، بل يحرصون على عدم المساس بالأوضاع الطبقية من منظور أن الملكية مهما كان حجمها كبيراً وهائلاً، وأياً كان مصدرها أو طريقة الحصول عليها ، فإنها مقدسة ولا تمس، رغم أنها تكونت من السرقة ونهب المال العام وثروات البلاد وقبل كل شيء من كدح الملايين لعقود وعقود. هم يتجاهلون أن الكارثة تكمن في الطبيعة الطبقية للسلطة الحاكمة.
تعود الذاكرة إلى السنوات القليلة السابقة على ثورة يوليو، حيث الأزمة شاملة (وإن بدرجة أقل من حجمها الحالي). إذ لم تستطع النخبة السياسية حينها من تصور وإدراك ماهية الاستحقاقات المفروضة للخروج من الأزمة. بما في ذلك حزب الوفد الذي امتلك أيامها شعبية جارفة لا يمتلك ربعها الآن أي كيان سياسي في البلاد.
ربما الفارق الأكثر أهمية وخطورة بين الظرف الراهن وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، هو وجود تجربة سابقة وخبرة سابقة وواقع ملموس تكرس ممن يقوم على استقلال القرار الوطني والتنمية المستقلة والعدل الاجتماعي... الخ (أياً كانت الانتقادات). وهو أمر يفرض بالضرورة استحقاقات أكبر بما لا يقاس عن استحقاقات المرحلة التي سبق الإشارة إليها. هي استحقاقات متجاوزة بمسافة هائلة، بل ومناقضة تماماً للتصورات البائسة المطروحة (الديمقراطية البرجوازية) التي لن تنتج أي شيء ايجابي في ظل تركز الثروة في يد طبقة ضيقة من اللصوص.
إن الاستحقاقات التي يجب أن تطرح بجرأة ووضوح لابد أن تبدأ بمطلب تغيير نظام الملكية القائم استناداً إلى أننا لا نبدأ من نقطة الصفر. لا نعيد اختراع العجلة كما أسلفت. فقد سبق أن قطعنا شوطا على طريق التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية.
كان اغتصاب فلسطين عام 1948 عاملاً حاسماً في تفاقم الأزمة، ومحفزاً شديد الفعالية لمطلب واستحقاق الثورة. ليس من منطلقات عاطفية تجاه الأشقاء الفلسطينيين، بل كقضية وطنية مصرية في الأساس.
إن التبعثر الذي تعاني منه تجمعات النخبة، وطابعها الإصلاحي، والطرح السقيم لأسماء مثل «البرادعي» ومن على شاكلته، يبتعد بمسافات هائلة عن الاستحقاقات الضرورية التي يطمح إليها عشرات الملايين من الكادحين الذين فقدوا الثقة في النخبة السياسية. وهو ما يخلق وضعاً يحتم استدعاء طليعة يمكنها الفعل واستعادة الوطن في هذه الظروف المعقدة والحالكة، في إطار تحالف شعبي وطني يدرك دروس التاريخ وضرورات الجغرافيا. يمتلك النضج، لا يستنسخ الماضي بحذافيره وإنما يعيد إنتاج أفضل ما فيه ويثريه.