المناخ رأسمالي.. ولكن!

وضع «العرس المناخي» في كوبنهاغن «أوزاره»، بعدما حصل على نصيب كبير من الجرعات المخصصة له في نشرات الأخبار الإذاعية والتلفزيونية وعلى صفحات المجلات والصحف والجرائد الورقية والمواقع الالكترونية، وخلص «الطبل والزمر» و«التناطح» بين مؤيد ومعارض، ومهول ومخفف، ومكترث وغير مبال، ومحتج ومتآمر...

وإن كان لا يمكن في كل الأحوال أن يكون المقصود من ذلك وضع إشارات مساواة بين الطرفين، إلا أن ذلك لم يغير من جوهر المسألة مثلما لم، ولا يغيره تراشق المسؤوليات بين الدول المتطورة والدول النامية، وتحويل الأولى لبضع عشرات من مليارات الدولارات ورفض الثانية لهذا الابتذال والاختزال! فالمشكلة لم تنته خلال «كوبنهاغن» وبعده، ولا يبدو أنها ستنتهي مادام المناخ رأسمالياً..
قليلة كانت في الواقع تلك المواد والأصوات التي ركزت على الموضوع من هذه الزاوية بتلك الدرجة أو تلك، بمعنى حقيقة الارتباط العضوي بين ظاهرة التغير المناخي، تدهوراً، والظاهرة الرأسمالية، بمعنى أن زوال الأولى مقترن بزوال الثانية. وهذه الندرة مرتبطة أساساً بالوعي ومنطلقات التفسير والتحليل بما فيها منظور المصلحة الطبقية. (وتجدر الإشارة هنا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى مواقف وتحليلات رؤساء فنزويلا وبوليفيا وجزر المالديف مع بعض علماء المناخ ومحللي علوم الاقتصاد والاجتماع).
إن أية مقاربة للمسألة دون إقرار هذه الحقيقة معناها استمرار مسببات الوضع الراهن، أي أنه ما لم يضع المتضررون بمختلف أطيافهم- وهم الغالبية العظمى من سكان الأرض- هدف إسقاط الرأسمالية على أجندتهم، فإنه مع تفاقم مشكلة التغير المناخي، ستبقى ردود المضرين والمتضررين محصورة بدفاع كل طرف عن مصالحه بشكل تضليلي منحرف عن بوصلته، في حين سيبقى رد الطبيعة انتقامياً على الاستغلال الرأسمالي الجائر لها، وهنا فإن الرأسمال بطبيعته لن يفعل شيئاً سوى مواصلة حكاية «ضرب القسم الخاص به من السفينة» بما يهدد بإغراقها بقضها وقضيضها، وبكل من عليها من ضرر ومضرين ومتضررين. وهذا بحد ذاته من جانب آخر، هو مؤشر لزوال الرأسمالية كنظام، مقابل بقاء الطبيعة كحاضن وبنية وبيئة ونمط إنتاج وتوزيع مختلف، على اعتبار أن ما يجري هو صراع رأسمالي على حساب الطبيعة، وعلى حساب «الدراويش» ذوي «الغازات» القليلة، إنتاجاً مباشراً أم مسؤولية عن إنتاج غير مباشر على أرض ثانية وثالثة ورابعة.. وأينما امتدت أذرع الإخطبوط الرأسمالي!
ومن زاوية أخرى فإن الموضوع مرتبط بحقيقة أخرى مفادها أن النمط التكنولوجي للرأسمالية لم يعد قابلاً للاستمرار، لأن الاستجرار والاستنزاف الجائر للثروات الطبيعية والغابات ومصادر الطاقة غير المتجددة، أو التي تأخذ وقتاً طويلاً في إعادة تجديد ذاتها (الفحم والنفط والمواد المشعة النادرة أو ذات الطاقة العالية)، وتبديد هذه الثروات والطاقات تسويقاً على أدوات ووسائل استهلاكها كالكتل الأسمنتية والسيارة والطيارة والصاروخ ومكوك الفضاء وأسلحة الدقة العالية والتدمير الشامل، أصبح مرفوضاً من وجهة نظر الطبيعة. وهذا بحد ذاته أيضاً أصبح سبباً آخر للإطاحة بالرأسمالية ونمطها التكنولوجي، ونظام توزيع الثروة المبني على منطقها، على اعتبار أن التطور التكنولوجي المستند إلى ذهنية «الربح» سيقدم تكنولوجيا «ربحية» محددة حسمت الطبيعة رأيها فيها بأنها «ضارة»، وهي بحد ذاتها مصدر طاقة غير متجددة، ولكن ينبغي الخلاص منها، إن أُريد للبشرية الخلاص.
ببعض التفصيل، نرى أن مُدخلات الظاهرة الرأسمالية تقوم على استنزاف المصادر الطبيعية غير المتجددة، في حين أن مخرجاتها هي نفايات يصعب على الطبيعة هضمها تنعكس بأزمات بيئية ومناخية. وإن هذا الاستنزاف الجائر مع ما يتضمنه من مصادرة كميات عمل، وثروات الأجيال الحالية واللاحقة سمح للرأسمالية في مراحلها المختلفة بإحداث تطور حقيقي كان تراكمه الأولي على حساب المستعمرات والثاني على حساب الطبيعة. ولكن مع استنزاف هذا التراكم لذاته في ظل أزمة الرأسمالية، والكارثة المناخية، وانتقام الطبيعة، ونهوض مقاومات الشعوب ووعيها مجدداً، لن يتبقى أمام الرأسمالية من مخرج سوى محاولة إحداث عملية تراكم ثالثة أساسها تصعيد سياسات «المالتوسية الجديدة» فتكاً بأكبر عدد ممكن من سكان المعمورة، وفتكاً بالطبيعة مجدداً لتزداد حدة الدوامة وتحقق الرأسمالية بمنطقها ونمطها التكنولوجي مقولة ماركس حول حفر قبرها بنفسها، وإلا ستتحول قضية الرأسمالية من وجهة نظر القائلين بأبديتها مثل «الدولار» في نشرة أسعار صرف العملات في مسرحية «العقل زينة» لزياد رحباني: «أما بخصوص الدولار فطاير بالباروك بالعالي، بعد ما وصفولوا المناطق العالية مشان مناخها... ما ناخها و«....» معها..»!