إبراهيم البدرواي - القاهرة إبراهيم البدرواي - القاهرة

شايلوك.. يأتينا من جديد (8)

 الاختراق من أسفل كان مستحيلاً سوى بعملية التفاف خبيثة ومعقدة.

كيف تم الاختراق من أسفل؟

في عام 1942 (ذروة الحرب العالمية الثانية) كانت القوات الغربية تعبر مصر من الجبهات الغربية الى الشرقية وبالعكس. أي أن مصر كانت منطقة ترانزيت للقوات العابرة، بينما كانت الرأسمالية اليهودية في مصر تستكمل الاعداد لإقامة «الكيان الصهيوني» في فلسطين. ولذلك كانت العائلات الرأسمالية اليهودية تقوم بدأب باستقبال القوات العابرة التي كانت تمكث بمصر لفترات للراحة، بهدف التعرف على الضباط والجنود اليهود ودعوتهم لحفلات تقام في قصورهم، حيث تلقى عليهم محاضرات للدعاية للصهيونية وضرورة إقامة وطن لليهود في فلسطين. وكانت قصور عائلات «كورييل– عدس– موصيري.. وغيرهم» هي مستقر هذه الحفلات ومحاضرات الدعاية.

فجأة حدث تحول استهدف «إحداث ثغرة» في جدار الرفض الشعبي للمشروع الصهيوني (وللرأسمالية اليهودية بطبيعة الحال)، إذ قدمت أسر رأسمالية يهودية عديدة من بينهم (موصيري– كورييل– عدس.. وغيرهم) عدداً من أبنائهم الشبان ليقوموا باختراق الحركة الشيوعية المصرية الوليدة في هذا الوقت، حيث كان قد سبق توجيه ضربات شديدة للحزب الشيوعي المصري المجيد الذي كان علنياً من عام 1921 حتى 1924 والذي كان معادياً للصهيونية ومدركاً لخطرها، وتمت الضربة الهائلة بواسطة الثلاثي الشهير: القصر الملكي والاستعمار البريطاني والبرجوازية المصرية.

كان هذا الاختراق هو الأخطر والأشد فتكاً، وعانى منه النضال الشيوعي في مصر منذ ذلك الحين وحتى الآن. إذ أهدر نضالات عشرات الألوف من مناضلي الطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين والطلاب.. الخ. وأسفر عن نتيجة مفجعة هى الموافقة على قرار تقسيم فلسطين في اتجاه معاكس للرفض الشعبي العارم لذلك. وأدى إلى انقسامات قادها شيوعيون حقيقيون ومخلصون: الشهيد شهدي عطية الشافعي– أنور عبد الملك، الشهيد زكي مراد، عبد العظيم أنيس– عبد المعبود الجبيلي. واتخذ فؤاد مرسي الموقف نفسه في أثناء وجوده في باريس وبعد عودته منها. ولعل موضوع «شذرات من سجل هنري كورييل» الذي تفضلت جريدة وموقع «قاسيون» بنشره في نوفمبر 2009 يلقي قدراً من الضوء على هذا الاختراق الكارثي.

فيما عدا هذا الاختراق كانت المقاومة واسعة من الطبقة العاملة والفلاحين والموظفين المصريين ضد الرأسمالية اليهودية. 

نماذج من المقاومة:

كانت مقاومة العمال والفلاحين والموظفين المصريين ونضالاتهم رغم طابعها الاقتصادي تحمل قدراً من الوعي السياسي رغم غياب القيادة. ورغم المعلومات الشحيحة فإن الباحث التقدمي اللامع الراحل «أنس مصطفى كامل» قد أورد جانباً منها في كتابه «الرأسمالية اليهودية في مصر» تضمنتها محافظ وثائق الشركات اليهودية.

في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، وفي شكوى الموظفين والعمال بشركة كوم أمبو وردت العبارة التالية نصاً: «إن هذه الشركة الإسرائيلية تقوم بإذلال الشعب المصري وتسخيره لأغراضها ومعظم المستخدمين والموظفين من اليهود والأجانب، وفي الوقت الذي تصل فيه أجرة أقل واحد منهم  إلى ما بين 100 و150 جنيهاً في الشهر فإن أجرة العامل المصري لا تتجاوز العشرة قروش في اليوم». وننبه هنا إلى أن ذلك يعني أن أجر المصري كان ثلاثة جنيهات شهرياً. وننبه أيضاً إلى أن الأراضي الشاسعة لهذه الشركة كانت بمثابة مستوطنة يهودية يتدرب فيها اليهود على ممارسة الزراعة قبل رحيلهم الى فلسطين لإقامة المستوطنات اليهودية فيها.

في عام 1949 شكوى ضد شركة أراضي واستثمارات الدلتا تقول نصاً: «إن هذه الشركة تعتبر شركة صهيونية ومركزها معاد لمصر ومصالحها ولا يوجد بها مصريون سوى الخدم..! إن هؤلاء الرأسماليين اليهود يجمدون أصول وأموال الشركة ويرسلونها إلى تل أبيب عن طريق اليهود المقيمين بالمعادي والذين يسافرون الى فلسطين دورياً...».

في عام 1951 يرفع عمال شركة البحيرة المساهمة شكوى يقولون فيها: «إن هناك مؤامرة من الأجانب الاستغلاليين الصهيونيين ضد المصالح الوطنية». واختتمت الشكوى بقولهم: «أيها الأجانب الصهاينة لا تتآمروا على أبناء الوطن وكفى اغتصاباً للحقوق».

قبيل حرب فلسطين عام 1948 تطوع الكثيرون للحرب ضد الصهاينة. كان من بينهم ضباط من الجيش المصري.

رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً على التسوية المذلة والمشينة مع العدو الصهيوني، فإن الرفض الشعبي للكيان والمشروع الصهيوني وللتطبيع معه لا يزال على أشده. والتخندق والفرز بين الوطنيين والخونة على أشده. وأصبح جلياً لكل ذي بصيرة أن وجود «الكيان الصهيوني» يستهدف حماية المصالح الامبريالية من ناحية، وحماية الطبقات الرأسمالية العميلة في بلداننا من ناحية أخرى، وكمنصة للقفز على مصر وكل الاقليم العربي– الإسلامي من ناحية ثالثة. كما أصبح واضحاً أن الرأسمالية اليهودية في مصر كانت فرعاً للرأسمالية الامبريالية قبل وبعد إقامة الكيان الصهيوني. 

الاستحقاق:

أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ شهور قليلة، ادعى «نتنياهو» أنهم ليسوا غزاة وإنما أتوا إلى أرض أجدادهم. ومنذ أسابيع وأمام أهرام الجيزة تم ضبط مرشدين سياحيين إسرائيليين– سمحت لهم الحكومة المصرية بالعمل في مصر(!!)– يروجون للسائحين أن اليهود هم بناة الأهرامات، رغم أن بناء الأهرامات كان سابقاً على وجود العبرانيين وأساطيرهم بألف عام. أي أن اليهود لا يسرقون الأرض فحسب، وإنما يسرقون التاريخ أيضاً.

منذ سنوات تم طرح مشروع «الشرق الأوسط الجديد» إسرائيلياً، ثم أمريكياً، وهو المشروع الذي يبين بوضوح وعلى رؤوس الأشهاد، أن فلسطين ليست هي نهاية المطاف في المشروع الصهيو– امبريالي. ولا حتى الحلم اليهودي القديم «من النيل إلى الفرات»، ولكنه تجاوز كل ذلك إلى الإقليم العربي الإسلامي جميعه.

كلما أمعن الصهاينة والامبرياليون في عدوانهم وتوسعهم واحتلالهم لبلداننا، أمعن غاصبو الثروة والسلطة في بلداننا في الركوع الذليل، و افتضحت خرافة وأكذوبة السلام.

الاستحقاق الوحيد الذي دونه اختفاء مصر والعرب والمسلمين من الوجود هو أن يتم «الخروج الثالث» لليهود، ليس من مصر التي عادوا إليها من جديد وإنما من الإقليم العربي– الإسلامي كله.

هذا الاستحقاق لن يقوم به «الليبراليون الجدد» والطبقات العميلة في بلداننا. هؤلاء الذين يكرسون المشروع الصهيوني الضامن لوجودهم.

هذا الاستحقاق يتحتم أن تكون مصر هى طليعة انجازه، ليس بواسطة النخبة المهترئة ولكن بأن يخرج منها «عبد الناصر» جديد. نخوض معاً تجربة أكثر نضجاً، متخطية للنواقص.

الاستحقاق ينتظر «تحالفاً وطنياً شعبياً» يحمل مشروع التحرير والعدل الاجتماعي والتقدم والديمقراطية الحقة للشعب، قوامه جنود مصر وكادحوها.