مأساة الشعب التونسي.. وشعوب العالم الثالث
تونس، البلد الجميل، الذي يقال عنه «لبنان شمال أفريقيا»، حيث جمال الطبيعة وجمال الناس، تونس، رغم غناها وثرواتها شعبها جائع، دون عمل: يضطر أحد المتعلمين (الثانويين أو الجامعيين) أن يبيع على عربة، ويقال في الريف للبائع على عربة أو على يده، إنه (متعيش)، أي في أدنى درجات طلب العيش. وحتى هذا لم يكن متاحاً له، فيأتي جلواذ الأمن، ليقلب له العربة، أي ليحرمه من رفيقه اليومي، وينفعل المسكين، ويبلغ به الانفعال، أن ينتحر حرقاً.
يا للمأساة التي يجب أن يهتز لها العالم بأسره، ولكن لم يهتز أحد (راحت بكيسه). العالم لا يهتز للمآسي الإنسانية، فالجوع يملأ آسيا وأفريقياً وأمريكا اللاتينية، وأخذ يتغلغل في أوربا والولايات المتحدة، ويأكل الجائعون النفايات، أو خشاش الأرض (إن بقي خشاش)، وتتغذى عقولهم وبنفايات الأفكار وبخشاشها، ولذا لا خوف منهم عموماً، إنهم يتأوهون ويستنجدون، وعندما لا يلبهم أحد، يغمضون أعينهم.
وأهتز الشعب التونسي، ليس فقط تأييداً لضحية جلواذ الأمن، وإنما لأن الأغلبية تعاني الفقر والبطالة، والتعسف، وغياب احترام المواطن، واحترام الإنسان. شأن الشعب في ذلك شأن الشعوب الثالثية، التي تعاني الأغلبيات فيها، كثيراً أو قليلاً، نفس الإذلال، فقد كانت شعوباً مستعمرة، وما تزال مستعمرة رغم النشيد الوطني، والاحتفالات بأعياد الاستقلال.
والشعب التونسي شجاع، كان الأول في شمال أفريقيا في التخلص من الاستعمار الفرنسي، فقد طرد المستعمرين قبل الجزائر، وقبل المغرب، ولكن هل يستطيع الحصول على حقوقه السياسية والمدنية؟
الوسيلة العامة اليوم حتى في الدول المتطورة هي القمع في مواجهة الاحتجاجات، أية احتجاجات، على الجوع، على الفقر، على البطالة، على التعسف الأمني، على المطاليب العمالية والنقابية بأنواعها، فحيثما التفت المرء، هناك «مكافحة الشغب» (أي: الاحتجاجات هي شغب)، أخفها بالهراوات ويلي ذلك خراطيم المياه، والرصاص المطاطي، والغاز المسيل للدموع، وحتى السام، وتصل الأمور إلى الرصاص الحي.
طبعاً كل ذلك نوع من ارتكاب الجرائم، ولكن من يحاسب؟
السلطة بذلك تخسر الشعب، وهي كسلطة، من المفروض أن تكون وطنية ويجب أن يهمها ذلك كثيراً. ولكن لا، فهي إذا خسرت الشعب لن تخسر تحالفاتها الدولية، وما يهمها الشعب الأعزل، الذي لا حول له ولا قوة، وأمره لا يهم لا لجان حقوق الإنسان، ولا المحاكم الدولية، فهذه وتلك لديها هموم أخرى.
لدى الإدارات منطق وحيد ضد الاحتجاجات، هو أن أسباب الاحتجاجات هي تحريض (خارجي أو داخلي لا فرق)، وليست سياسية أو اجتماعية. والتحريض والعياذ بالله يجب بتره، وتختلف شدة البتر من بلد إلى آخر، وألبير كامو في «حالة الحصارL' état de siège » يرصد أن البتر يتألف من قتل العدد الكافي من الناس للحصول على صمت البقية فالبتر قد يؤدي إلى قتل الشعب كما في اليمن أو السودان أو باكستان، وليست هذه مقصودة بذاتها، وإنما كأمثلة كما يجري في عالم اليوم. وهل يؤثر ذلك على شعبية السلطة؟ مطلقاً لا. والمسألة ليست شعبية أو عدم شعبية. ما تهم الشعبية؟
فالمهم اليوم بدءاً من الولايات المتحدة وحتى الشرق الأقصى هو أن يكون الشعب حائزاً على رضا السلطة بصمته وبهدوئه لا العكس. الإجراءات الأمنية للحفاظ على أمن المسؤولين، بدءاً من رئيس الولايات المتحدة لم يسبق لها مثيل. في الماضي القريب كان البيت الأبيض مفتوحاً لزيارة عموم الناس، أما اليوم فأسوار دونها أسوار.
الانتخابات؟ مرحباً انتخابات.. في العالم الثالث يكفي زعيم عسكري، وإذا لزم الأمر، فالانتخابات صورية، وتملأ الصناديق بالأوراق فالشعبية ورقية. وفي البلدان المتطورة أو المتطورة نسبياً، من يستطيع أن ينافس مرشحي عمالقة الاحتكارات؟ هل يستطيع أحد من عباد الله العاديين أن يدفع على حملته الانتخابية ملايين أو مليارات الدولارات؟ هل يستطيع أحد أن ينافس أحد مرشحي الحزبيين الجمهوري والديمقراطي الأمريكيين، أو العمالي والمحافظ الانكليزيين أو برلسكوني، الخ؟
القمع اليوم شديد، ربما بما يفوق الشجاعة، ولكن الشعب التونسي شجاع..