ريتشارد دي. وولف ترجمة: موفق إسماعيل ريتشارد دي. وولف ترجمة: موفق إسماعيل

ضجيج التعافي والمحظور السياسي

الدخول في عام جديد يحث واشنطن، بصداها الأكاديمي وصخب إعلامها، على إطلاق موجة جديدة من التصريحات الطنانة عن «تعافي» الاقتصاد الأمريكي التي سئم الناس سماعها، وتبين بطلانها وبطلان مطلقيها على الدوام، منذ بدء الأزمة في عام 2007. لكن استمرار الضجيج كان مفيداً لبعضهم وما زال. حيث يزعم الجمهوريون أن على الحكومة ألا تتصرف كثيراً» نظراً إلى أن التعافي جارٍ على قدم وساق! (طبعاً، فهم يعتبرون تصرف الحكومة غير مثمر). ويساندهم الوسطيون من الديمقراطيين، في زعم أن إعادة توزيع الدخل لم تعد ضرورية، لأن التعافي يؤدي إلى النمو، مما يعني تلقائياً حصول كل شخص على قطعة أكبر من فطيرة الاقتصاد النافشة!

ورغم أن الضجيج المفتعل حول تعافي الاقتصاد يساعد أوباما على تلميع صورة سياسات إدارته، غير أنه ليس أكثر من أوهام بعيدة عن الواقع. فأثناء دخولنا عام 2011، مازال الـ20% من قوة العمل الأمريكية على حالهم، عاطلين أو شبه عاطلين عن العمل، منذ عام 2009، دون أدنى تعافٍ في هذا المجال، و25% ممن صحّت لهم فرصة عمل، حصلوا على وظائف مؤقتة لا تعويضات فيها ولا ضمان. إضافة إلى أن إجراءات البنوك (بما فيها تلك التي تلقت المعونات الحكومية) المتعلقة بالرهن العقاري ما زالت تؤدي إلى طرد الملايين من بيوتهم. ولا تعافي في هذا المجال أيضاً، إلا بالنسبة للبنوك الكبيرة!

والأسوأ هو الأسباب التي أدت إلى: إقرار بنك الاحتياطي الفيدرالي صك ستمائة مليار دولار، وموافقة الكونغرس والرئيس، في الشهر الأخير من السنة، على تقديم المزيد من الحوافز المالية (تمديد العمل بالإعفاءات الضريبية التي كان قد أقرها بوش، تخفيض الضمان الاجتماعي لعام 2011... الخ). حيث تم اتخاذ هذه الإجراءات لأن كل ما سبق تقديمه من تعويضات وتسهيلات مالية وإعفاءات ضريبية وإنفاقات حكومية على خطط التحفيز، فشل في إنهاء الأزمة. واليوم، يدرك أولئك المعتمدون على إثارة الضجيج أن المزيد من السياسات التي فشلت سابقاً، ستفشل مجدداً.

أما الأهم من هذا وذاك، أن الجعجعة حول التعافي تهدف إلى تحويل الأنظار عن الخلل الجوهري في نظامنا الاقتصادي: عدم استقراره بنيوياً. فالـ«انكماشات» المتكررة، التي لم تنجح بمنعها لا سياسات الحكومة ولا إجراءات القطاع الخاص، تكلف المجتمع الأمريكي غالياً، وتُغرق الملايين من العمال المنتجين الأكفاء في مستنقعات البطالة، مهددة الأفراد وتماسك الأسر ووحدة المجتمع. إذ تهدر الحكومات ثروات شعوبها لأجل إنقاذ حفنة من رأسماليين أسهموا في حدوث الأزمة، ويملكون ما يقيهم شرورها، ثم تلتفت إلى شعوبها ثانية فارضة عليهم التقشف (تخفيض الإنفاق على الخدمات الاجتماعية والضمان الاجتماعي وما إلى ذلك) لترميم الميزانية الحكومية المختلة بسبب التكاليف الباهظة لعمليات إنقاذ الرأسماليين. ومثل مَن قتل والديه ثم تضرّع طالباً الرأفة به بحجة أنه يتيم، تطالب الشركات العملاقة بحكومة محافظة وبرنامج تقشف بحجة العجز الهائل في الميزانية العامة! وتتبنى وسائل الإعلام السائدة مطالب الشركات العملاقة، مذكّرة إيانا بمَن يهيمن على مَن!

لكن مجريات نصف القرن الفائت تقتضي تحليلاً مغايراً للأزمة، وطريقة أخرى لاستقبال العام الجديد. فمنذ أوائل السبعينيات، توقفت زيادات أجور العمال وتقلص أمنهم الوظيفي وتعويضاتهم، مع اشتداد ضغوطات المحافظين على الدعم الحكومي لذوي الدخول المتوسطة. وتم تبرير هذه الأعباء المتزايدة باعتبار أنها ضرورية لجلب المزيد من الاستثمارات وتحقيق نسب نمو أعلى. لأن فطيرة اقتصاد أكبر تعني توفير حصة أكبر للجميع بمن فيهم العمال! لكن الوقائع توضح أن النمو في الولايات المتحدة وأوروبا تباطأ باطراد طيلة تلك السنوات (انظر الرسم البياني، للبروفيسور في جامعة روما، باسكال تريديكو).

وفيما تدهورت أوضاع العمال، تزايدت الفوائض الرأسمالية والأرباح وانتعشت أسواق الأسهم، وتمت إعادة توزيع الدخل والثروة لمصلحة الأغنياء من حساب الفقراء ومتوسطي الدخل. دون أن تتحقق النتائج الموعودة أبداً: لا مزيد من الاستثمارات ولا من النمو الاقتصادي. وكما يوضح الرسم البياني، تباطأ النمو، ودخل النظام بأكمله في أزمة كارثية.

وها هو الضجيج المفتعل اليوم حول التعافي يعلو بالتزامن مع إجراءات حكومية سوف تكرر، في عام 2011، دورة التعويضات والتسهيلات المالية والتحفيز التي أثبتت عدم جدواها منذ عام 2007. ولا تجرؤ هذه الإجراءات على مقاربة التساؤل عن كيف أدت عملية إعادة توزيع الدخل والثروة، طيلة عقود، إلى الأزمة؟ وما دورها في الأزمة؟ فيما تهدف كل خطط التعافي، فقط، إلى إعادة الاقتصاد إلى ما كان عليه قبل دخوله الأزمة وتحطمه!

ولا يجرؤ لا الديمقراطيون ولا الجمهوريون على ربط الأزمة بنظام اقتصادي دأب على إنتاج «الإنكماشات» التي أطاحت بملايين من فرص العمل، وهدرت الموارد والإنتاج، وهددت حيوات الناس. فالنظام الاقتصادي غير خاضع للمساءلة، بالنسبة لهم، ويتوجب الانحناء إجلالاً لمحظوره غير المعلن: «إياك أن تنتقد نظاماً يعتمد عليه رزقك»!!

ومن هنا، سوف تستمر هذه الأزمة وآلامها إلى أن يجد الرأسماليون فرصاً مغرية لتحقيق الربح، واستئناف عمليات استثمار الناس وتشغيلهم في الولايات المتحدة وخارجها. لأن حصول الرأسماليين على مبالغ الدعم الحكومي، حسب حاجاتهم، لاستثمارها حينما يريدون وحيثما يرغبون، وبالوسيلة الأنسب لزيادة أرباحهم الخاصة، هي الحريات الأسمى التي تلتزم بها السلطة. أما تحرر الشعب الأمريكي من الحاجة فيظل أولوية ثانوية لا يمكن تحقيقها إلا عبر حراك سياسي جماهيري.

في أسوأ الأحوال وأحسنها، الرأسمالية نظام يضع أقلية ضئيلة من الناس الذين تجمعهم أهداف محددة (الربح، الدخل العالي، السلطة السياسية المهيمنة... الخ) في موقع الجابي- الموزع للثروة العامة الضخمة. أولئك الناس، بمن فيهم أعضاء مجالس الإدارات، يحصدون صافي إيرادات الأعمال ويقررون، بالاشتراك مع كبار مالكي الأسهم، كيفية توزيع تلك الثروة. وليس غريباً أنهم يستخدمونها لتحقيق أهدافهم والتأكد من حماية الحكومة لمواقعهم.

أخيراً، لا إصلاحات أوباما السابقة أو المستقبلية، ولا السياسات الكينزية النقدية أو المالية، تقدم لنا تفسيراً لكيفية عمل هذا النظام وكيفية استخدامه لثرواته. والتخلص من هشاشة الرأسمالية وعدم استقرارها العالي التكلفة اجتماعياً، يتطلب تغيير النظام برمته.

تلك هي الموضوعة الأهم في العام الجديد، ولأجيال قادمة. فهل يحطمون النسخة المعاصرة للمحرّم الخطر القديم: لا تشكك بالنظام السائد؟