ليبيا.. القذافي يقف على آلاف الجماجم
تتعقد الأوضاع في ليبيا مع اتخاذ الانتفاضة الشعبية المشتعلة فيها منذ شباط الماضي شكل اشتباكات وصدامات مسلحة بين المنتفضين وكتائب القذافي المدعومة بشكل خفي من بعض القوى الإمبريالية، وعدم قدرة أيٍّ من الطرفين على حسم الأمور لمصلحته، وهو ما فسح المجال لتعالي وتزايد الأصوات المطالبة بالتدخل الأجنبي، سواء في داخل ليبيا أو من خارجها. وبينما يتوالى سقوط الضحايا في المدن الليبية إثر المعارك الدموية الدائرة، تتباين المواقف «المعلنة» للقوى الإمبريالية العالمية حول ما يجري، فالإدارة الأمريكية مازالت منذ اندلاع الانتفاضة تسعى إلى التدخل العسكري بحجة حماية المدنيين، ولكن محاولاتها المستمرة للحصول على شرعية القيام بذلك ما فتئت تُواجه برفض القوى الإمبريالية الأخرى، مما يؤكد عدم وصول هذه القوى لأي اتفاق بشأن تقاسم الحصص والنفوذ والثروات الليبية، وهو الذي ينعكس استعصاءً ميدانياً وسياسياً يدفع ثمنه حتى الآن الشعب الليبي الثائر، المتطلع للحرية والكرامة في بلده الموحد المستقل. والآن تحاول الإدارة الأمريكية الالتفاف لتحقيق هدفها بالتدخل المباشر بمساعدة عملائها في النظام الرسمي العربي، وهو ما يجب أن يرفضه الليبيون وجميع أحرار العالم رفضاً قاطعاً، والعمل على دعم الانتفاضة الشعبية بكل الوسائل للإطاحة بنظام القذافي مع المحافظة على وحدة تراب ليبيا ووحدة شعبها.
إن كل المعمورة الآن، وبالأخص الشعوب العربية المحتقنة أو الثائرة، تشاهد مأساوية المشهد الليبي، وآخر تطورات ثورة أحفاد عمر المختار، والقلوب مليئة بالأسى تجاه ما يحدث من اقتتال غائم الملامح والغايات والأهداف والمحركين والداعمين، واستمرار المجرم معمر القذافي بالذبح والوقوف على آلاف جماجم الشعب الليبي الصامد بمفرده اليوم..
وبينما المعارك تتسم بالكر والفر في أكثر من منطقة، فإن المجتمع الدولي ما يزال غير منسجم حول ما يمكن فعله، فتارة يزعم دعمه للثائرين ويعدهم (وهم لا ينتظرون وعوده) بأنه سيقوم بنصرتهم، وتارة يتفرج مكتفياً برفض الممارسات الوحشية لطغمة القذافي الحاكمة وكتائبه بينما المؤشرات تشير إلى عكس ذلك.. ولا يدفع ثمن كل ذلك إلا الشعب الليبي الذي يبقى عرضة لكل أشكال التآمر عليه داخلياً وخارجياً، ليعاني من ظروف إنسانية غاية في التردي والسوء نتيجة استفحال القتال..
ففي مدينة طرابلس العاصمة حسبما نقل ناشطون على الموقع الاجتماعي الفيس بوك، فإن الكتائب الأمنية قامت بإغلاق مستشفى الحوادث والحروق، وانتشرت حول المبنى عناصر أمنية موالية للنظام لتمنع إسعاف المصابين من جانب الثوار.. و نقلت بعض وسائل الإعلام عن شاهد عيان أن عناصر أمنية ما انفكت تقوم بإطلاق النار بشكل كثيف على كل شيء يتحرك في أماكن محددة من العاصمة.
وفي مدينة أجدابيا شرق البلاد، ما تزال مواجهات طاحنة ومعارك عنيفة تندلع يومياً بين الطرفين مع كل محاولة لقوات القذافي التقدم تحت غطاء من القصف المدفعي والجوي، الذي نجم عنه حتى الآن مقتل المئات أو إصابتهم بجروح.. دون أن يكون للجرحى أي احتمال جيد وإنساني للمعالجة!
أما مصراته التي تهاجمها كتائب القذافي من جهة الغرب بشكل يومي تقريباً وترشقها بقصف مدفعي بري عنيف باستمرار فإن الوضع الإنساني لأبنائها ما يزال يتهاوى، ولكنهم يرفضون الاستسلام أو التقهقر أو إلقاء السلاح..
إن ما يرتكبه القذافي بحق شعبه غير مستغرب، وكذلك لا يمكن استغراب التواطؤ الواضح من الدول الإمبريالية الكبيرة التي تجيد وتمتهن التدخل في شؤون الغير انجراراً وراء مصالحها الاقتصادية، وفي التوقيت الذي يخدم هذه المصالح فقط.. ولعل تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أروغان في هذا السياق تؤكد ذلك.. حيث صرح لوسائل الإعلام أن النفط هو معيار الغرب حيال الموقف من ليبيا، وهذا صحيح، كما كان النفط معيار الغرب حيال الموقف من العراق سابقاً، ولكن الفارق هنا ربما يكون في الرغبة في إجهاض الثورات المشتعلة، ومحاصرة ثورتي تونس ومصر، وترك بؤر التوتر تشتعل حتى الأخير لتتحول إلى فوضى خلاقة وفق النموذج الأمريكي..
من الشرارة سيندلع اللهيب.. هكذا تكلم البلاشفة قبل قرن من الزمان.. لقد كانت الشرارة التي اشتعلت في جسد البوعزيزي أكبر من مجرد لهب عود ثقاب، بل كان لهيبه لهيب شعوب البلدان العربية من تونس إلى البلدان الأخرى، بانتظار نضوج ظرفها الثوري الذي سيكون بمثابة الزلزال الذي يهز عروش الأنظمة العربية العميلة بهدير حركة الجماهير الثائرة.