نور طه نور طه

« الدولرة» تدمر إيران

نجحت العقوبات الجائرة التي يفرضها الغرب على إيران بترك أثر هدّام في بنية الاقتصاد الإيراني، حيث شملت هذه العقوبات معظم مستوردات الجمهورية الإسلامية إضافة لصادراتها النفطية وتعاملاتها البنكية التجارية.

 

تواجه ايران وفقاً للبروفيسور ستيف هانك من جامعة ( جون هوبكنز )  تضخماً مفرطاً بنسبة شهرية تصل إلى 70% كما تسجل عملتها المحلية ( الريال ) تراجعاً ملحوظاً أمام العملات الأجنبية.

الوضع النقدي في ظل الحصار

يرى هانك أن إيران الآن أمام ثلاثة خيارات :

الخيار الأول: قبول غير رسمي بالدولار في تعاملاتها حيث يقوم المواطنون باستبدال الريال بالدولار في السوق السوداء (كما حدث في زيمبابوي).

الخيار الثاني: قبول رسمي بالدولار حيث تقوم الدولة بسحب عملتها لمصلحة الدولار (كما حدث في الإكوادور).

الخيار الثالث: أن تقوم إيران بإصدار عملة جديدة مدعومة 100% بالدولار.

يشير هانك بشكل غير مباشر في معرض تحليله لحالة التضخم التي تصيب الاقتصاد الإيراني إلى وجود (عوامل خارجية) من دون أن يوجه أي نقد إلى العقوبات الغربية أو إلى التخريب الممنهج لبنية الدولة الإيرانية الذي يتمثل بدعم الإرهابيين المناوئين للنظام الإيراني ودعم عمليات اغتيال الكفات العلمية فيها وصولاً إلى التحضير لحرب ضدها (فمن المعروف أن أميركا هي من شجعت العراق على مهاجمة إيران في عام 1980).

يستكمل هانك تحليله مؤكداً على خصائص الاقتصاد الإيراني المتلخصة بـ «طبع متزايد للعملة ،أسعار صرف متعددة، نظام معونات اقتصادية بالغ التعقيد «ويشكو في الوقت ذاته من أن البنك المركزي الإيراني لم ينشر منذ مدة أي إحصائيات حول الواقع الاقتصادي. ناسياً – أو متناسياً – أنه من  غير الممكن لدولة تمر بحالة طارئة (كإيران) أن تفصح عن معلومات حساسة كتلك التي يطلبها هانك.

يهمل هانك بلا مبالاة التأثير الذي تلعبه توقعات المستثمرين على الأسعار بحجة أن «الخوف المرافق للتوترات العسكرية ليس أمراً جديداً على الإيرانيين»!! . بالفعل فالولايات المتحدة لم تتوقف يوماً منذ أن نزعت إيران قيود الاستعمار عنها في 1979 عن استهداف إيران. ومن اللافت والجدير بالذكر أن إيران ورغم كل الحملات الغربية عليها نجحت في تحقيق نجاح اقتصادي باهر.

قد يطرح البعض على ضوء ما سبق سؤالاً: لماذا ارتفع معدل التضخم الإيراني بشكل كبير في الفترة الأخيرة تحديداً؟

والجواب : إنها العقوبات.

ولماذا تفرض العقوبات؟ أهي انعكاسٌ لتخوّف غربي من أن تطور إيران قنبلةً نووية؟

بالطبع لا هناك سبب آخر، سبب كفيلٌ بأن يطيح بـ «خيارات هانك الثلاثة». إن الخيارات الثلاثة تصب بنتيجة واحدة: القبول بديكتاتورية الدولار.

 

سيناريوهات فرض الدولار

حاولت إيران منذ عام 2008 - حين افتتحت بورصتها النفطية - أن تسوق نفطها بعملات أخرى غير الدولار. وعندما قام العراق بخطوة مماثلة في عام 2000 جاء الرد الأمريكي على شكل حرب.

( غزو العراق في 2003 ).حيث جسد هذا الغزو المعنى الحرفي لمقولة: «فرض الدولرة بقوة السلاح».

ومن هذا المنطلق يمكن فهم العقوبات المفروضة على إيران باعتبارها محاولة أمريكية أخيرة لإرغامها على الخضوع للنظام العالمي الذي تترأسه  ويعد الاعتراف بالدولار كعملة وحيدة للاحتياط العالمي أحد أهم نتائج هذا الخضوع.

يشدد هانك مجدداً على أن اعتماد الدولار كعملة بديلة في إيران ليس أمراً ضرورياً، وإذا أخذنا الظروف الحالية بعين الاعتبار فسنجد أن هذه الفكرة بجميع الأحوال لا تعدو كونها اقتراحاً سخيفاً. غير أن الاستعانة ببديل عن الدولار الأمريكي (الدولار النيوزلندي مثلاً) سيكون برأي هانك  كفيلاً بالالتفاف على واقع أن كل العملات العالمية مرتبطة بالدولار. وللتذكير فقد بقي هذا الواقع مستمراً منذ ثلاثينيات القرن الماضي حين تخلى العالم عن القياس بالذهب إلى يومنا هذا.

سواء اتجهت الحكومة الإيرانية لإعلان استسلامها بشكل سريع كما حدث في الإكوادور أو ماطلت وتأخرت في هذا الإعلان كحالة زيمبابوي أو سواء أصرت كالأرجنتين على الاستمرار بطباعة المزيد من العملة  بأسهم معادلة 100% للدولار الأمريكي عبر مجلس صرف العملة الوطنية فإن كل هذا لا يعدو كونه تأكيداً لشيء واضح سلفاً. وفي حين أن الرسالة التي وجهتها الولايات المتحدة سابقاً للأرجنتين وزيمبابوي والأكوادور كانت تقول : سياساتكم الاجتماعية غير مقبولة، فالرسالة التي توجهها أميركا للإيرانيين اليوم هي: أعطونا نفطكم وخذوا دولاراتنا.

 

العقوبات أم السياسات النقدية

إن النظرية المالية التي يتبعها هانك – طباعة العملة تسبب التضخم – تتجاهل بشكل واضح الأسباب الحقيقية وراء التضخم على الرغم من أنه يعترف بأن الإيرانيين قد أمضوا ما يزيد على ثلاثة عقود في مواجهة مخاوف اندلاع حرب ضدهم.

إن سياسة الرقابة النقدية وإدارة المعونات التي تنتهجها إيران والمتمثلة بالتحكم بالأسعار وإدارة الاحتكارات الحكومية  والتخطيط الاقتصادي على النمط السوفييتي - التي يصفها هانك بالسياسة الاقتصادية الخاطئة – بالتأكيد ليست المتسبب بالتضخم كما يدعي البروفيسور بل على العكس، فهذه السياسة هي عبارة عن مجموعة اجراءات تتخذها الحكومة لإبقاء الأمور تحت السيطرة.

ولكن وفي نقطة معينة  تصل العقوبات الخارجية إلى مستوى هائل تفشل معه حتى هذه الإجراءات في التصدي لها والحد من تأثيرها. وهذا ما يحدث الآن حيث تسببت العقوبات بمصاعب وآلام جمة أصابت وتصيب المواطن الإيراني العادي. إضافة إلى أن التهديدات الغربية بمهاجمة إيران تؤدي إلى انخفاض تلقائي في قيمة العملة بغض النظر عن كمية العملة التي تقوم الحكومة بطباعتها.

الأمر ذاته حدث في ألمانيا في عام 1922 حيث أجبرت في حينها على تصدير كل شيء لديها لشراء الذهب لدفع التعويضات الباهظة المترتبة عليها.

«إن كل حالات التضخم المفرطة عبر التاريخ كانت تنبع من أسواق صرف العملات الأجنبية» كما يؤكد البروفيسور مايكل هدسون من جامعة ميزوري الأمريكية.

«حيث تقوم الحكومات بضخ ما يكفي من العملة في سوق العملات الدولية لتتمكن من دفع ديونها الخارجية» أنها «حرب بوسائل أخرى« كما يصفها المعلّق الكندي ستيفن جاوانز وجرى استخدام هذا التكتيك المعروف بـ (تخفيض قيمة عملة العدو) في الحرب التي شنّها نابليون ضد الروس.

 

خيار المواجهة

بالاستناد إلى تحليلاته يمكن تشبيه هانك بالطبيب الذي ينصح مصاباً بطلق ناري ببتر قدمه على الفور. فهانك مصر على عدم الاعتراف بأن العقوبات ضد إيران تشكل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان كونها تستهدف شعباً بأكمله دون وجه حق. وفي الوقت الذي يصر فيه هانك على خيار البتر كحل وحيد لحالة المصاب (إيران)، تعمل الحكومة الإيرانية على استخراج الرصاصة واتباع نظام صارم لإعادة التأهيل الأمر الذي يتطلب صبراً وعزماً كبيرين. فليس هناك علاج سحري لأزمة التضخم في الظروف الملموسة خصوصاً وأن بوادر غزو أمريكي إجرامي جديد ضد إيران باتت تلوح في الأفق.

إن الاختبار الحقيقي الذي ستواجهه إيران هو فترة الحرب حيث تقل في هذه الفترة السلع التموينية لتصل حدود الندرة كما يتحد المواطنون في هذه الفترة ويواجهون عدوهم بالتضحية.

إن البديل الوحيد أمام إيران لتفادي الحرب هو الالتحاق بركب الامبراطورية الدولارية بصفة عضو ثانوي.

على الرغم من أن العديد من الدول لا تجرؤ على مواجهة الولايات المتحدة إلا أن هناك استثناءات تتمثل بدول رفضت التخلي عن استقلالها والخضوع لسطوة أمريكا ودولارها كروسيا والصين والهند وكوريا الشمالية. وسيأتي يوم يشير العالم فيه أجمع إلى الدولرة كأبرز النفايات في مزبلة التاريخ.