رحيل داوود أوغلو عن الحكم: الطريق يطيح بـ«الرفيق»..!
أعلن رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أوغلو، في الخامس من الشهر الجاري عن نيته عدم الترشح لرئاسة حزب العدالة والتنمية الحاكم، في مؤتمر الحزب المزمع انعقاده في الثاني والعشرين من الشهر نفسه.
عكس هذا الإعلان فعلياً استقالة أوغلو من منصبه كرئيس حكومة، لكون النظام الداخلي لحزبه يشترط أن يتولى رئيس الحزب رئاسة الحكومة. وهو ما يسلط الضوء على أزمة يعيشها «العدالة والتنمية» ذات أبعاد متعددة.
حرص أوغلو في إعلانه المذكور، الذي جاء في مؤتمر صحفي عقب اجتماع اللجنة التنفيذية لحزب «العدالة التنمية»، على تلطيف استقالته من رئاسة الحزب والحكومة ما أمكن، فقد أكّد أنه لا يعيش خلافاً مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بل يعيش معه «علاقة أخوية»، قائلاً بالعربية: «الرفيق قبل الطريق»، وأنه سيبقى أحد جنود «العدالة والتنمية»، وأن لا أزمة سياسية أو اقتصادية سوف تنشأ عن خطوته تلك.
إلا أن الوقائع والمعلومات التي أحاطت باستقالة أوغلو تشير إلى أن الأخير بالغ كثيراً في رأب الصدع بينه وبين أردوغان في مجمل تصريحاته.
تقليص الصلاحيات
قبل استقالة أوغلو بأسبوع، قلصت اللجنة التنفيذية في «العدالة والتنمية»- وهي الهيئة القيادية الأعلى في الحزب- من نفوذه كرئيس للحزب، ونزعت صلاحيته في تعيين المجلس التنفيذي المكون من 50 عضواً، وتعيين المسؤولين الحزبيين للأقاليم والمدن والأحياء، الأمر الذي يعكس- بحسب المتابعين- ترجيح الموازين داخل «العدالة والتنمية» بالمطلق لكفة أردوغان، ذي النفوذ الأكبر وشبه الأوحد في الحزب.
وقبل الاستقالة بيوم واحد، فشل اجتماع ضم أوغلو وأردوغان بالوصول إلى نتيجة لحل قضايا «خلافية»، بحسب تعبير وسائل إعلام تركية، ولم يصدر أي بيان عن ذلك اللقاء، بالرغم من الإعلان عنه سابقاً. ما يعني في المحصلة أن استقالة أوغلو جاءت حصيلة صراع جرى ويجري داخل حزب «العدالة والتنمية» وحول توجهاته وسياساته التي تدخل في أدوار حرجة على المستويين الداخلي والإقليمي، وفي مرحلة تشهد تغيراً كبيراً في الموازين الدولية.
الخلاف ليس شخصياً
ركّزت معظم التحليلات السياسية والإعلامية على الخلاف بين أوغلو وأردوغان، وصورته «خلافاً شخصياً» بين الرجلين يعكس رغبة أردوغان في التفرّد في حكم البلاد وحزب «العدالة والتنمية»، وإقصاء أية شخصية ذات توجهات متمايزة. وفي هذا السياق، برزت العديد من القضايا الإشكالية في إدارة «العدالة والتنمية»، كعدم رضا أردوغان عن التكتيك الذي اتبعه أوغلو في التفاوض مع الأوروبيين حول ملف اللاجئين السوريين، ورفض أوغلو لاعتقال الصحفيين الأتراك الذين انتقدوا أردوغان، ودعوته لاستئناف المفاوضات مع المقاتلين الأكراد في جنوب- شرق تركيا بعد أن جرى نسف اتفاق التسوية الذي ساد لأكثر من عامين، وعدم إظهار أوغلو الحماسة الكافية لرغبة أردوغان في خوض معركة تعديل الدستور لتغيير نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي بصلاحيات واسعة للرئيس.. الخ.
هذه التحليلات، وإن عكست بعضاً من حقيقة ما يجري، إلا أنها أغفلت المغزى العميق من حدوث أزمة على مستوى استقالة رئيس حكومة في بلد إقليمي كبير يشهد احتداماً داخلياً، ويعيش في محيط ملتهب، ويشهد موقعه الجيوسياسي تحولات كبرى.
ينبغي لقراءة مثل هذا الحدث أن تؤخذ الأبعاد الداخلية والإقليمية والدولية كاملة للتحولات التي تشهدها السياسة التركية وآفاقها اللاحقة.
سوابق عدة
ليس جديداً أن يختفي قيادي بارز فجأة عن المشهد السياسي في بعض حكومات المنطقة، وبالأخص في الحكومات المرتبطة بالسياسات الغربية ومراكزه المتعددة. فالقيادة التركية المذكورة ذاتها كانت قد شهدت غياب مماثل لعبد الله غُل، الرئيس التركي السابق، وأحد القياديين في «العدالة والتنمية»، يوم أزاحه أردوغان عن زعامة الحزب قبل انتهاء مدته الرئاسية بيوم واحد خلال عام 2014، معتمداً على كونه ممنوعاً من الترشح في الحزب لكونه رئيساً للجمهورية. كذلك أزيح أمير قطر السابق، حمد بين خليفة، في تموز 2013، لصالح ابنه تميم، وجاء ذلك مترافقاً مع تغير في عناصر أخرى في الحكم القطري. أما السعودية، فكانت قد شهدت تبديل رئيس استخباراتها بندر بن سلطان 2014، وتغيرات واسعة في وجوه الحكم الأساسية، شملت وزير الخارجية السعودي.
جاءت التبدلات المذكورة جميعها في مرحلة يشهد فيها العالم تراجع الولايات المتحدة الأمريكية بفعل الأزمة الرأسمالية العالمية، مقابل ظهور قوى وأقطاب جديدة في العالم. وانعكاس هذا التحول على الأدوار الإقليمية في المنطقة عموماً، وعلى الحكومات الأكثر التصاقاً بالغرب بنحو خاص.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ظهور «التيار الفاشي»، كأحد تعبيرات الأزمة الرأسمالية، في قيادة المعسكر الغربي إلى جانب «التيار العقلاني»، عكس حالة التأرجح التي يعيشها الغرب بين خيارين في التعامل مع التراجع الناجم عن الأزمة، الأول: بمواجهتها بالمزيد من الحروب وتفجير النزاعات حول العالم، والثاني: بالتراجع المنتظم والإذعان إلى منطق الحلول السياسية الذي يسعى الخصوم الدوليين الغرب كروسيا والصين لإرسائه. مثل هذا التأرجح يلقى صدىً مدوياً لدى حكومات المنطقة الحليفة للغرب، ومنها الحكومة التركية، على شكل تغيرات كما جرى مع أوغلو..
التوجهات اللاحقة
بالرغم من أن الرجلين، أوغلو وأردوغان، أحاطا الخلاف الذي جرى بينهما بالكثير من الغموض، إلا أن تفسيره من وجهة نظر الاستحقاقات التي باتت تركيا تواجهها يغدو أمراً أكثر واقعية وسهولة في ظل التغيرات آنفة الذكر. فتوجهات أردوغان بات واضحة على أكثر من صعيد، ففي الوقت الذي فجّر فيه خلافاً عميقاً مع روسيا، عقب حادثة إسقاط الطائرة الروسية على الأراضي السورية، يواصل أردوغان انتقاده لشق من الخطاب الغربي الذي يوافق على منطق التسويات والحلول السياسية في المنطقة، وبالأخص في سورية، فيما يواصل دعمه للفصائل المتشددة على الأراضي السورية، توازياً مع محاولات سياسية متواصلة لإفشال الحل، وكذلك إدارة أكبر شبكة اقتصادية سوداء بين الأراضي السورية والتركية. أما على المستوى الداخلي التركي، يدفع أردوغان باتجاه التصعيد مع المقاتلين الأكراد في جنوب شرق تركيا، وإسقاط الحصانة عن نواب حزب «الشعوب الديمقراطي»، ومن جانب آخر، يسعى إلى الإمساك بزمام الحكم مجدداً من خلال منصة واسعة الصلاحيات، عبر تبديل نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي مطلق.
في المقابل، فإن داوود أوغلو الذي مثل توجهاً أقل تشدداً من أردوغان في بعض من المواقف المعلنة، كالموقف من الحريات والمقاتلين الأكراد وغيرها، لم يعد له مكان إلى جانب سياسة أردوغان وهي تعتزم المضي مسرعة نحو العديد من المواجهات الداخلية والإقليمية..
إلى أين؟
أثناء وعقب أعلان أوغلو عن اعتزامه الرحيل، تبينت الوجهة اللاحقة لحزب «العدالة والتنمية» على ألسنة معظم مسؤوليه. الهدف الواضح بالنسبة لهم، هو تحويل نظام الحكم إلى رئاسي بصلاحيات واسعة للرئيس، أما أداة تحقيق هذا الهدف فهي جمع أغلبية في البرلمان التركي تكفي لذلك.
حالياً لدى الحزب 317 مقعداً، ويحتاج تعديل الدستور إلى موافقة 376 مقعداً، ولطرح تعديله لاستفتاء شعبي 330 مقعداً. وسيلجأ الحزب على الأرجح لتحالف ممكن مع «حزب الحركة القومية» اليميني المتطرف بزعامة دولت باهتشلي للحصول على ثلاثة عشر صوتاً منه لتحويل مشروع الدستور الجديد من البرلمان إلى استفتاء شعبي، أو إسقاط عضوية نواب من «حزب الشعوب الديمقراطي» بتهمة التعاون مع «حزب العمال الكردستاني»، وإعادة إجراء الانتخابات في دوائرهم ووضع نواب من «حزب العدالة والتنمية» محلهم، وبالتالي، الوصول إلى النسبة اللازمة لتعديل الدستور، أو اللجوء إلى انتخابات نيابية مبكرة.
تعكس توجهات أردوغان في بعض جوانبها النزعات الفاشية لجزء من القوى الغربية، التي تجد نفسها مستفيدة من مواصلة خلق النزاعات والتوتر في المنطقة وعلى تخوم خصومها الدوليين، وبالأخص روسيا. هذا «الطريق» الذي ينتهجه اردوغان بات يقتضي إزاحة أي «رفيق» لا يكون على مستوى التوافق المطلوب لمواصلته.