«يسار» و«يمين» فرنسي العباءة الأمريكية اهترأت..!
خطوة ذات دلالات حملها قرار الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، الذي دعا الحكومة الفرنسية للتخلي عن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، وعدم تجديدها مرة أخرى. القرار يتعدى حدود «الرمزية» ليكشف عمق الانقسام السائد أوروبياً حول الموقف من المتغيرات العالمية.
لو أردنا البحث في التبعات القانونية، فلن نستغرق وقتاً طويلاً للاستنتاج بأن القرار غير ملزم للحكومة الفرنسية، إلا أن المهم في عملية اتخاذه هو تلك الصافرة التي انطلقت لتشير إلى توجه جزء كبير من «النخبة» والمجتمع الفرنسي نحو إعلان رفض القطيعة- التي رعتها واشنطن- بين أوروبا وروسيا.
النخب الحاكمة: ليس حباً بروسيا
رغم المعارضة الأوروبية الواسعة للعقوبات الاقتصادية على روسيا، لم يناقش أي برلمان أوروبي هذه الخطوة، ولم يعتمد قراراً كهذا الذي تم في فرنسا، مع العلم أن أرقاماً تتحدث عن أن نسبة الأوروبيين المطالبين بتحسين العلاقات مع روسيا في بلدان مختلفة في أوروبا، بلغت 30-40%، ما يشكل شريحة واسعة جداً من السكان. وقبل ذلك، لم تكن النخب السياسية الحاكمة تستمع لرأي هؤلاء الناس، إلا أن ما جرى في فرنسا من الممكن له أن يشكل أولى المؤشرات على أن الوضع آخذ في التغير، وأن إرادة هذا الجزء من الشعب الفرنسي لم يعد من الممكن إلا أن تؤخذ بعين الاعتبار.
لعبت العوامل الداخلية دوراً جوهرياً في تطور هذا الأمر. في المقام الأول، جاء الرد الروسي على العقوبات الأوروبية بعقوبات مضادة، والحقيقة هي أن حرب العقوبات قد ضربت الاقتصاد الفرنسي، عملياً أكثر من الروسي. والفرنسيون أنفسهم ينظرون سلباً للمواجهة التي جرتهم الولايات المتحدة إليها مع روسيا، ويريدون الخروج منها. هذه العوامل، يتم استخدامها من القوى السياسية، وأبرزها «الجبهة الوطنية» التي تعلن انتصارها لسيادة فرنسا، وعداءها لواشنطن واقترابها في السياسة الدولية من موسكو. ولذلك، فإن أصوات المواطنين المستائين من العقوبات، بطبيعة الحال، ذهبت لصالح «الجبهة الوطنية».
الحكومة الفرنسية القائمة انزعجت من هذا الأمر، ونرى كيف يحاول حزب نيكولا ساركوزي «الجمهوري»- على الرغم من أن ساركوزي نفسه شخصية موالية تماماً للولايات المتحدة- اللعب على هذه المشاعر واستغلالها. هنا، يمكننا القول أن الليبراليين الفرنسيين يفهمون أنهم إذا استمروا في الدعوة لتمديد العقوبات، سيصبحون في عزلة عن شعبهم، وحينها ستنتهي مرحلتهم السياسية. هذا هو السبب في تبني حزب ساركوزي توجه إستعادة العلاقات مع روسيا، ليس لأنهم يحبون روسيا، ولكن لأنهم يدركون أن الأمر يرضي الكثير من السكان. وهذا هو السبب الذي دفع تييري مارياني، النائب عن الحزب الجمهوري بزعامة نيكولا ساركوزي، لطرح هذه المبادرة.
هذه صورة القرن الجديد..
من اللافت أيضاً، أن نواباً من «الجبهة الوطنية» اليمينية، ومن «حزب اليسار» بزعامة جان-لوك ميلانشون، ومستقلين، قد صوتوا لصالح رفع العقوبات. وبهذا، اتحدت القوى اليسارية واليمينة والمناهضة للنظام- مع الأخذ بعين الاعتبار أن تسميات يسار ويمين لا تطلق حكماً نهائياً حول جوهر توجهات هذه الأحزاب السياسية- ضد تبعية فرنسا السياسية للولايات المتحدة التي تعيش اليوم مرحلة تراجع عميق.
وإذا استمعت الحكومة الفرنسية لمبادرة البرلمان الفرنسي، فإن ذلك سيعني أنه حتى هولاند- الشخصية الليبرالية الفائقة والمثيرة للجدل نسبياً- لم يعد قادراً على مواصلة تتبع خطى سياسة الولايات المتحدة. لكن، إذا رفضت حكومته قبول هذا القرار، يمكننا أن نستنتج أن هولاند وحكومته يعتمدون على الولايات المتحدة لدرجة الاستعداد للتضحية بمستقبلهم.
وبطبيعة الحال، ستلحق بفرنسا بلدان أوروبية أخرى، وفي أوائل الصيف في قمة للاتحاد الأوروبي، ربما سنلحظ الصورة التالية: بعض دول الاتحاد الأوروبي تعارض تمديد العقوبات ضد روسيا. وفي وقت سابق، ظهرت مبادرات برفع العقوبات، ولكن ربما ستنضم لأصوات الحلفاء التقليديين وأنصار التقارب مع روسيا، أصوات جديدة ووجوه جديدة، ربما تكون مفاجئة.
حقيقة أن القوى المناهضة للنظام الفرنسي وجزءاً من هذا النظام، تطالب برفع العقوبات، يدل على صحة القوانين الجيوسياسية التي تؤكد أن أوروبا لا يمكنها الاستغناء عن روسيا. أوروبا لا يمكن أن تصبح قطب قوة مستقلة، دون تكوين صداقات وتحالفات مع الدول الرئيسية في آسيا.