الحراك الشعبي الفرنسي: قانون استثنائي لأزمة استثنائية

عصفت بأوروبا في أواخر السبعينات وبداية الثمانيات حركة شعبية رافضة لمشروع الليبرالية الاقتصادية التي عبرت عن مشروع رأس المال المالي العالمي في المراكز التي اتفقت وقتها على التراجع عن الكينزيه الاقتصادية- التي كانت الأيديولوجيا الاقتصادية للقوى السياسية الأوروبية والأمريكية ما بعد الحرب العالمية الثانية. 

 

وقتها حملت الأحزاب اليمينية في بريطانيا وألمانيا وفرنسا مشروع السياسات الليبرالية الجديدة، وخصخصت الاقتصاد الوطني، وأنتجت سلسلة من القوانين التي تناسب مرحلة تراجع الحركة الثورية العالمية، وتراجع القوى الوطنية اليسارية الناتج في أحد أوجهه عن تراجع الاتحاد السوفيتي.

ورغم المعارضة الشعبية الواسعة للتحولات الاقتصادية، استطاعت القوى السياسية اليمينية بهذا الشكل أو ذاك تطويق الحراك الشعبي وتفريغه من مضمونه، وتمرير مشاريع الطغم المالية الأوروبية والعالمية التي شعرت بسلطة مطلقة في جني الأرباح.

أما اليوم، إبان أكبر أزمة اقتصادية في تاريخ النظام الرأسمالي، ومع محاولات النظام المالي العالمي إنعاش ذاته بسلطة رأس المال المطلقة، التي تريد انتزاع مكتسبات الطبقة العاملة كلها لمصلحة أرباب العمل، يجري فرض تقديم التنازلات على الدول الأكثر ضعفاً، والتي تعرضت لأكبر الأضرار نتيجة للأزمة الاقتصادية، فبعدما كانت إجراءات التقشف وتخفيض الميزانية وضرب الضمان الاجتماعي تفرض على دول جنوب أوروبا وشرقها، تنتقل اليوم الشروط والإملاءات لإحدى أكبر الدول في أوروبا، التي كانت سابقا تفرض ولا يفرض عليها، ولاعباً أساسياً، لا تابعاً ضعيفاً يخاف الإفلاس: فرنسا. 

ارتباك رسمي.. ومظاهرات تتصاعد

ليس قانون العمل ما دفع الفرنسيين للاحتشاد بالملايين في فرنسا فحسب، كظاهرة كلاسيكية عادة ما تحصل في أوروبا ضد مشاريع قوانين جدلية. إنما تحمل الاحتجاجات الحالية، التي يشارك فيها العمال والطلبة (فاقوا المليون والمئتي ألف)، شيئاً من الاحتجاج الأوروبي العام على مجمل المنظومة الحاكمة في أوروبا كلها، وعلى الحال التي وصلت إليها القارة نتيجة لمحاباة أصحاب الربح بترليونات الدولارات.

المنظومة السياسية الفرنسية مرتبكة، ولا يبدو أنها نفسها مقتنعة بالقانون الجديد الإشكالي، ولا تستطيع كذلك إقناع الناس به. كما وصل الحال إلى حد ظهور بوادر الانشقاقات داخل الحزب الاشتراكي الحاكم في فرنسا، حيث تراكم الإشكالات السياسية والاقتصادية أدى إلى دخول الحزب في مرحلة دقيقة قد تعصف بوحدته حسب الكثير من المراقبين، لظهور تيار رافض لسياسته في ملفي الهجرة والاقتصاد، تزعمه في بادئ الأمر وزيران غادرا الحكومة مع تشكيل نسختها الثانية، هما أرنو مونبورغ (وزير الاقتصاد)، وبونوا هامون (وزير التربية)، فيما برز من بين الأسماء اسم زعيمة الحزب السابقة، مارتين أوبري، التي خسرت الانتخابات التمهيدية للحزب أمام هولاند في تشرين الأول من عام 2011.

ووقعت أوبري، رئيسة بلدية ليل (شمال فرنسا)، إلى جانب كوادر سياسية وثقافية مقالاً نشر الأسبوع الأخير بجريدة «لوموند»، انتقد بشراسة سياسة الحكومة. وأكدت في مقابلة مع صحيفة «لوجورنال دي ديمونش» أنها ترغب في مغادرة قيادة الحزب الاشتراكي، برفقة كوادر حزبية أخرى.

حوامل المشروع الجديد وخطره

عادة لكل مشروع اقتصادي حوامل اجتماعية وسياسية. والمشروع المطروح على العالم اليوم هو مشروع السماح للرأسمال الفرنسي بجني الأرباح كلها دون قيود، ويحمله اجتماعياً تلك القوى المالية وامتداداتها الدولية، وحامله السياسي تلك القوى السياسية الأكثر تطرفاً وقرباً من الفاشية الجديدة التي تضع فرنسا، بعدما صعقتها بسلسلة الأعمال الإرهابية، بين خيارين: إما القبول بمشروع التحول أو الانفجار الاجتماعي.

إن خطر خروج اليونان من منطقة اليورو، وما تلا ذلك وسبقه وتخلله من ارتفاع في مستوى الحركة الشعبية في أوروبا عموماً، يدل على إفلاس السياسة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، رغم سعي الليبراليين الجدد (أمثال جورج سوروس، الذي يقدم المشورة للسياسيين الأوروبيين باستمرار بشأن المسائل الاقتصادية)، كي يبقى الاتحاد الاوروبي متمنعاً عن التحرير الكامل، وغير قادر على العودة إلى سياسة عقلانية لإدارة القطاع المصرفي.

وفي سياق مواجهة البروباغندا التي تحاول لصق الأزمات الأوروبية بملف المهاجرين، فإنه من الجدير التذكير بأنه ليس التدفق الهائل للاجئين والمهاجرين إلى الاتحاد الأوروبي سوى نتيجة لأفعال الاتحاد الأوروبي السابقة في بلدان آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. حيث يشكل الأفارقة والآسيويين (الجيل الثاني والثالث من المستعمرات السابقة) المستوعبون في أوروبا سابقاً، حلقة ربط بين اللاجئين الجدد، وبين سكان أوروبا، إلا أن مجمل القوانين المعتمدة، لن تسمح بحل هكذا قضايا إنسانية مما يؤدي، وسيؤدي إلى حالات عبثية ومأساوية.

إلى ذلك، نصل إلى التأكيد على أن الأزمات التي تظهر هنا وهناك في الداخل الأوروبي، لن يكتب لأحدها الحل منفرداً ما لم يجري أولاً إسقاط مفاعيل ذلك التكاتف الذي يبديه أصحاب رأس المال في عموم القارة، حيث يجري الضرب بعرض الحائط القيم جميعها التي تتفاخر بها القارة من التقدم والديمقراطية، وغير ذلك..