ديمتري أورولوف ديمتري أورولوف

انهيار الرأسمالية... المرحلة الثالثة: الإنهيار الاجتماعي - الثقافي (3/3)

يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية الكثير من المحتاجين الذين لا يأخذون من المساعدات الحكومية إلا القليل القليل، على الرغم من البرامج الحكومية الضخمة بهذا الصدد، ذلك أن الأمريكيين لا يقبلون على الأعمال الخيرية كثيراً بشكل عام.

ترجمة: مشعل شيخ نور

ولكن إذا ما قارنا الولايات المتحدة  مع غيرها من الدول المتقدمة، سنرى في الواقع أن الولايات المتحدة قاصرة جداً عندما يتعلق الأمر بمساعدة المحتاجين ويصل الأمر إلى حدّ من السادية السياسية، ويظهر هذا  في مواقف الناس من الرعاية الاجتماعية على سبيل المثال، ويمكن رؤية هذه السادية أيضاً في ما يسمى «نظام الرعاية الاجتماعية» الذي أجبر الكثير من «الأمهات العازبات» على القيام بأعمال بالكاد تغطي  تكاليف الحضانة، وغالبا ما تكون دون المستوى المطلوب.
بالكاد تستطيع الصدقات الحكومية أن توفر حاجات هؤلاء الناس الذين لا يستطيعون حتى إعالة أنفسهم، حينها ينبغي أن نبحث عن خيارات أخرى. إن أحد الاتجاهات الواعدة، هو إحياء مفهوم المساعدات الإجتماعية غير الحكومية، حيث يجمع مجموعة من الأعضاء التبرعات، ومن ثم يقومون بتوزيعها على المحتاجين.
من ناحية نظرية على الأقل، تعدّ المنظمات التي تعمل بهذه الطريقة أفضل بكثير من المساعدات الحكومية أو الجمعيات الخيرية. فأولئك الذين تمت مساعدتهم لا ينبغي عليهم أن يتنازلوا عن  كرامتهم، وإذا قيّد لهم البقاء أحياءً في الأوقات العصيبة يجب أن لا يتم تشويه سمعتهم في وقت لاحق.
ولكي لا ينقصهم أي شيء في  الفترات الصعبة، فالنهج المعقول الوحيد، كما  يبدو لي، هو تشكيل مجتمعات قوية ومتماسكة بما يكفي لتوفيرالرفاه لجميع أفراده، التي تكون كبيرة بما يكفي لتكون قادرة على حل المشاكل، وتتحمل المسؤولية المباشرة لتحقيق الرفاه لكل الناس.
إذا فشل هذا الجهد، ستصبح حينئذ النظرة العامة للمستقبل رهيبة للغاية. وأود أن أؤكد مرةً أخرى، أنه يجب علينا أن نفعل كل ما في وسعنا لتجنب هذه المرحلة من الانهيار. نحن يمكن  أن نسمح للنظام المالي، والقطاع التجاري، ومعظم المؤسسات الحكومية بالإنهيار، ولكن من المستحيل أن نسمح بالإنهيار الاجتماعي.
ما يجعل هذا الأمر تحدياً من نوع خاص هو أن التمويل والإئتمان، والمجتمع الاستهلاكي، والقانون والأوامر التي تفرضها الحكومة، قد سمحت  للمجتمع بالمعنى المباشر بتقديم مساعدات متبادلة وتحمل كامل المسؤولية تجاه بعضهم البعض ، فعملية  الإنحلال الإجتماعي أقل وجوداً  في المجموعات التي نجت من الأزمة الأخيرة مثل  المهاجرين والأقليات، أو الأشخاص الذين خدموا معاً في القوات المسلحة. فالغرائز التي تكمن وراء هذا السلوك تبدو  قوية، وهي التي ساعدتنا على البقاء على قيد الحياة كـ جنس بشري، ولكنها تحتاج إلى إعادة تنشيط في الوقت المناسب لإنشاء مجموعات متجانسة كافية لتكون قابلة للحياة والنمو.
 فالثقافة تعني أشياء كثيرة وكبيرة للناس، ولكن ما أعنيه هنا هو عنصر هام  جداً ومحدد موجود في الثقافة وهو  كيف يمكن للناس أن يتواصلوا مع بعضهم البعض وجهاً  لوجه،  فهل ما يقدمه الناس لأنفسهم يقدمونه لغيرهم ؟ أم إنهم   يشعرون  بأنه من المقبول أن تكذب لتحصل على ما تريد؟ أتفتخر بما لديك من مال أم تفتخر بما تعطيه للناس المحتاجين؟

 نحن نحتاج إلى أجوبة صادقة لهذه الأسئلة والتي أخذت من قائمة  فضائل «تيرنبول كولن»، الذي كتب كتاباً عن قبيلة وبين كيف أن تلك القبيلة بدأت بفقدان تلك الفضائل. وكانت نقطة تيرنبول تبحث في أنه كيف تم تدمير تلك  الفضائل الشخصية في المجتمع الغربي، ولكن في الوقت الراهن يتم هذا كله بواسطة قناع  المؤسسات المالية والتجارية والحكومية .
يعتقد تيرنبول بأن عالمنا  عالم  غير مبال، ولذلك يبدو من المتوقع نظرياً أن يرد المواطنون الخطرعن أنفسهم، ولكن في الواقع يمكن البقاء على قيد الحياة فقط بفضل الخدمات المالية والتجارية والحكومية فقط ،إنها تسمح لنا بممارسة هذه الفضائل الدافئة بين العائلة والأصدقاء. ولكن هذا مجرد بداية، وهناك ما  يمكننا من توسيع هذه الدائرة لتشمل من الدفء المزيد والمزيد من الناس الذين يهموننا  ونهمهم.
يتحدث الكاتب السويسري «سفين ليندكفيست» في كتابه «إبادة كل الوحوش» عن الإرث الاستعماري الأوروبي من خلال مراقباته المذهلة ويصف كيفية تحول العنف إلى شيء لا يمكن إدراكه. فالمعتدي ، سواء كان صريحاً  أو ضمنياً ، سيصبح غريباً.
ليس من الضروري أن يكون العنف مادياً، فأحد أنواع العنف الخفية هو العنف العقلي والذي  ينتشر في عالمنا بشكل كبير، و يتحدث هذا العنف عن  رفض الإعتراف بوجود الآخر. قد نعتقد أن ما يجعلنا أكثر أمناً هو المشي بمحاذاة الناس  دون إجراء اتصال فعلي معهم.
إذا كانت لدينا نظرة فارغة وغير مبالية  فهذا بالتأكيد كلام صحيح، وأنه من الأفضل أن يحول المرء نظره بعيداً، و في الواقع هذا يعني بأنني لا أعترف بكم» وهذا بالتأكيد لا يجعلك أكثر أمنا». ولكن إذا كانت نظرتك  تقول «أنا أراك، أنت على ما يرام ، أعترف بك، حينئذ النتيجة ستكون على العكس تماما. فحتى الكلاب تفهم هذا المبدأ تماماً، وهذا ما ينبغي أن يفهمه الناس.
ليس من الضروري أن يكون الإنهيار التجاري نهائياً،  إن أي اقتصاد جديد  سينشأ تلقائياً ودون كل تلك  الزخرفة  والهدر، وسيكون قادراً على توفير معظم الاحتياجات الأساسية في الأماكن التي هي سليمة اجتماعياً وثقافياً، وهذا أمر لا مفر منه تقريباً، فيبدأ الناس بتحمل المسؤولية ويبدؤون بفعل  كل  ما هو ضروري دون انتظار أية موافقة رسمية.
إذا كنا نعرف ما سيأتي، يمكننا أن نبدأ بتجاهل الأشياء التي لن نكون قادرين على الاعتماد عليها وإذا لم نفعل ما يكفي من ذلك ، قد نجد أنفسنا في عالم مختلف، من المحتمل جداً أن نجد أنفسنا في عالم أفضل أو بالأحرى عالم أسرع،  هنا مثال شخصي : فقبل  بضع سنوات، قررت أن أتخلى  عن سيارتي، فبدا  الأمر لي  غير عملي ، وبدأت بركوب الدراجة بدلاً من ذلك لم يكن ذلك سهلاً في بداية الأمر ، فمجرد ما اعتدت على ذلك حدث شيء غريب لإدراكي وفهمي.
 بدأت أرى السيارات بشكل مختلف تماماً في الصباح وأنا في طريقي إلى العمل، أود أن أركب الدراجة  على امتداد الطريق السريع، والتي كانت مزدحمة دائماً بالسيارات، فعندما تكون أنت السائق ترى الأمر طبيعياً، لأنك جزء من هذا القطيع من الحشرات الآلية، ولكن ما رأيته كان عبارة عن مربعات من الصفائح المعدنية تحوي في داخلها الناس مسجونين مربوطين بكرسي داخل خلية صغيرة مبطنة، ومعظم هؤلاء المجانين الفقراء عبارة عن صورة من البؤس تبدو يائسة وغاضبة ووحيدة  حكم عليهم التنقل في تلك الدوائر. فبدا الأمر لي في غاية السعادة  وأنا أركب الدراجة وأذهب بها بعيداً أتجول بها في الحدائق وحول البرك، وأترك كل تلك الأشياء الرهيبة والفظيعة.
وهذه هي الحال مع عدد كبير من الأشياء. فأسلوب الحياة الذي نعيشه يشكل خطراً كبيراً على كوكبنا ، كما يجعلنا مجانين ومرضى ، وعلى ما يبدو بأن هذا الأسلوب يجب أن يتغير، أو ينبغي  استبداله، فهذا الأمر يمكن أن يكون صعباً في البداية، ولكن لا بأس به لأنه في نهاية المطاف سيبدو ذلك أفضل بكثير من ذي قبل .