أية «اشتراكية» في البيت الأبيض؟!
سعد خطّار سعد خطّار

أية «اشتراكية» في البيت الأبيض؟!

تتوقع آخر استطلاعات الرأي الأمريكية أن المرشح الرئاسي عن «الحزب الديمقراطي»، بيرني ساندرز، هو من سيقود «المواجهة الانتخابية الحامية» مع منافسته عن الحزب ذاته، هيلاري كلينتون. وساندرز هذا ليس أي مرشح، إنما ذلك الذي تجهد وسائل الإعلام الأمريكية بإلحاق لقب «الاشتراكي» على اسمه.

ثيراً ما جرى تقديم ساندرز على أنه «اشتراكي ديمقراطي»، وهو ذاته كان قد أعلن عن هذه «الهوية»، في خطاب له في أواخر شهر تشرين الثاني من العام الماضي، ما دفع بالكثير من مراكز البحث، وحتى بعض الصحف الدورية الأمريكية، لتفنيد ادعاءات ساندرز التي لا يمكن لها أن ترتبط بالاشتراكية العلمية في شيء.

«اشتراكية» المأزومين

صحيح أن ساندرز يدعو إلى ملاحقة «النخب الثرية» التي تسيطر على الاقتصاد الأمريكي عبر رفع الضرائب على ممتلكاتهم ونشاطهم الاقتصادي، كما يدعو إلى إغلاق الثغرات الضريبية وضبط عمليات التهرب الضريبي، ومضاعفة الحد الأدنى للأجور بهدف مساعدة ذوي الدخل المنخفض، ويقترح شكلاً لتوزيع الثروة وتمويل الرعاية الصحية الشاملة، ودعم التعليم الجامعي. لكن أياً من هذه الطروحات لا يمكن لها أن تشكل «وصفة» ليكون طارحها اشتراكياً.

خصصت الكثير من الدوريات العلمية الأمريكية مساحات واسعة للرد على الطروحات النظرية لساندرز، حيث أن طروحاته لا تزال تدور في فلك الرأسمالية، حيث أن «ديمقراطيته الاشتراكية» لا تعدو كونها حفاظاً على إنشاء الأعمال التجارية الخاصة، وحفاظاً على «اقتصاد السوق»، ودفاعاً عن «الشركات متعددة الجنسيات» التي تحضر معظم وجوهها المعروفة في كل من الحزبين «الديمقراطي- الجمهوري»، ولهذا الهدف، فلا ضير في المطالبة بإعادة توزيع بعض الثروة المنتجة، دون المس بمصالح من يمثلهم.

وفي هذا السياق، لا يتجاوز طرح ساندرز تلك الطروحات الكينزية التي خرجت في الولايات المتحدة، كخط دفاع أول عن المنظومة الرأسمالية التي ثبتت أزمتها للجميع، كما ثبت طابعها المؤقت في التاريخ البشري، تبعاً للأزمات المتلاحقة التي أصيبت بها المنظومة ككل.

«بدائل» المنظومة

بينما ترفع حملة ساندرز من كلمة «الاشتراكية» شعاراً لها، وفيما تفند قوى أخرى ادعاءاته، يعيش المجتمع الأمريكي جدلاً واسع النطاق حول «الرأسمالية- الاشتراكية»، ذلك الجدل الذي كان حتى الأمس القريب ممنوعاً في الولايات المتحدة، وإن لم يكن بالعصا، فإنه كان ممنوعاً بأدوات القمع الأكثر تطوراً، المعتمدة على التلاعب بوعي الملايين من السكان، في ظل هيمنة وسائل الإعلام، وتركزها بيد نسبة 1%، الأكثر ثراءً.

ليس هذا الحضور القوي لكلمة الاشتراكية في الولايات المتحدة- وإن كان بهدف تشويهها- مجانياً. إذ تدرك واشنطن أنه لم يعد بالإمكان قمع الحراك الشعبي في الولايات المتحدة، وهو الحراك المستند إلى تصاعد الحركة الاحتجاجية الشعبية في العالم، باستخدام الوسائل القمعية التقليدية وتلك التي لم تكن تقليدية وباتت اليوم تقليدية..!

وأفضل طريقة لتلافي التبعات المحتملة على مصالح رأس المال الأمريكي، من وجهة نظره هو، تكمن في استباق الطرح الاشتراكي، الذي سيخرج عاجلاً أم آجلاً في ظل الأزمة العميقة للمنظومة الرأسمالية، ومحاولات حرفه منذ البداية، عبر فتح الطريق أمام «بدائل» وهمية بوجهيها: الكينزي (كبيرني ساندرز) ، والشعبوي (دونالد ترامب).

في وقت يقوم فيه الأول بالاستناد إلى «الاشتراكية» كشعار عريض من شأنه أن يجمع حوله أولئك الحانقين على المنظومة الرأسمالية، يوجه الثاني طروحاته اليمينية الشعبوية لجذب من غذت الأزمة الرأسمالية النزعات القومية والدينية المتعصبة لديهم.

حلقة متكاملة..

يقوم المرشحان كلاهما بمهمة متكاملة: بينما يجذب الأول (ساندرز) جمهور عريض بات حاضراً في المجتمع الأمريكي، ويداعب الثاني (ترامب) النزعات المتعصبة التي وجدت طريقها أيضاً إلى الداخل الأمريكي، تبرز المرشحة، هيلاري كلينون، كـ«حل وسط» بين «الاشتراكيين» و«اليمينيين المتعصبين». وذلك ما يرفع أسهم كلينتون خطوات إلى الأمام، بعدما كان ينظر للعملية الانتخابية ككل على أنها مسرحية.

إذاً، لم تزل كلينتون المرشحة الأكثر حظوظاً للعبور إلى المكتب البيضاوي، وما يجري من «صراع انتخابي» أمريكي، لا يعدو كونه مسرحية، إنما أكثر تنظيماً وتأخذ في الحسبان أن خوض الاستحقاقات بأدوات الأمس إنما يعني حكماً مسبقاً بفشلها.

متى ينتهي دور الممثلين؟

إذا كانت أدوات القمع التقليدية الأمريكية قد استنفدت نفسها تماماً، فإنه من الممكن الحكم أنه حتى تلك الوسائل التي يجري تمريرها اليوم، من خلال تشويه البدائل ومحاولة استبقاها هي محكومة كذلك بالانهيار، إذ أن تلك المحاولات لا تزيد في الأمر سوى تراكمات جديدة في الخبرات التي يكتسبها الحراك الشعبي في العالم يومياً.

وإن كان الحاكمون في واشنطن- على اختلاف أحزابهم وشكل تمظهرهم اجتماعياً- قادرين على التكيف السريع مع ما تفرضه مصالحهم من ضرورات، إلا أن الحقيقة الجلية اليوم هي أن مصالحهم ذاتها باتت تضيق من خياراتهم ومن هوامش المناورة المتاحة أمامهم، فالخارجون إلى الشارع، ومهما صور عكس ذلك، يطالبون باستعادة حقوقهم التي ينظر إليها أصحاب الثروات على أنها ملكية خاصة لهم.. إنها الحقيقة العنيدة التي لا يمكن نكرانها..!

معلومات إضافية

العدد رقم:
000
آخر تعديل على السبت, 29 شباط/فبراير 2020 23:20