حرب اليمن خليجية بدفع أمريكي..!

حرب اليمن خليجية بدفع أمريكي..!

بدأت دول الخليج تدخلها العسكري في الشؤون اليمنية، في لحظة اعتراها الوهم بأن الموازين الدولية لا تزال تسمح بضربة خاطفة هنا أو هناك من شأنها أن ترفع من الوزن النوعي للدولة المتدخلة. ورغم إثبات الوهم الذي يعتري هذه النظرة، إلا أنه من الواضح اليوم أن قراراً بالتراجع عن هذا التدخل لم يعد مرتبطاً بمراكز القرار الخليجية، بقدر ما هو في يد واشنطن التي باتت «تهندس» تراجعها حتى على حساب أدواتها وحلفائها في المنطقة.

يأتي تأجيل جولة مفاوضات «جنيف» بين الفرقاء اليمنيين، والتي كان من المقرر لها أن تعقد يوم الخميس الماضي 14/1/2015، إلى «موعد لاحق» غير محدد، وفق بيان الأمم المتحدة، ليفتح على مجموعة من التساؤلات حول المآلات اللاحقة للحرب الجارية في اليمن.
بغض النظر عن الاختلاف في المواقف السياسية المعلنة من أطراف الصراع في اليمن، فإنها جميعها باتت تدرك، ولو ضمنياً، جبرية الاحتكام إلى المخارج السياسية من الأزمة. وبتمحيص دقيق لتداعيات الحرب اليمنية، فإن السعوديين أنفسهم- الذين قادوا «عاصفة» بدأت تخبو- باتوا يستجدون ضمنياً الخروج من هذا المستنقع بأقل خسائر ممكنة. فأين توجد القطب المخفية أمام مسار الحل؟


أنغام الخليج: مضبوطة بإيقاع أمريكي

في الشهر العاشر على بدء «عاصفة الحزم»، انتقل الحديث حول تكاليف العملية من التوقعات الأولية بـ«بعض الخسائر»، إلى البيانات المنتشرة حول الارتدادات الاقتصادية، وأرقام التراجع الاقتصادي في الداخل السعودي، في مقابل «مكاسب سياسية» لا يبدو أنها ستبصر النور.
إن لم تكن «العاصفة» وحدها مسبباً لهذا التراجع، نظراً إلى حجم التورط الخليجي في عدد من الملفات الأخرى، إلا أنها تنطوي على أكبر الخسائر الاقتصادية للسعودية، التي باتت اليوم مضطرة لدفع تكاليف حرب مسدودة الأفق بالمعنى الاستراتيجي، لا بل بدأت ارتداداتها السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية تصل إلى عمق الأراضي السعودية.
نورد هنا آخر الأرقام الحكومية السعودية التي تتناول تكاليف التورط السعودي في اليمن. حيث أعلنت وزارة المال السعودية في مطلع العام الجاري أن عجز الميزانية لديها وصل العام الماضي إلى مستويات غير مسبوقة بلغت 98 مليار دولار، وتوقعات بأن يصل العجز في العام الحالي إلى 87 مليار دولار، على أن تمول المملكة جزءاً من عجزها، من خلال «إعادة تقييم ومراجعة الدعم الحكومي، بما يشمله من دعم المنتجات البترولية والمياه والكهرباء.. إلخ». أي أن نتائج التورط السعودية خارجياً، بدأت تظهر كارتدادات داخلية بشكلها الاقتصادي- الاجتماعي، وعلى حساب الخدمات العامة في السعودية.
يمكن القول هنا، أن إغلاق الملف اليمني يصبح ضرورة موضوعية للسعودية ذاتها بأسرع وقت ممكن، بوصفه أحد أكثر جبهات الاستنزاف الاقتصادي العسكري المرجح بالازدياد. وإن كانت هذه الحسابات الاقتصادية التي نراها هنا وهناك، تنطوي على أبعاد اجتماعية لاحقة، إلا أن منطق التنافس الإقليمي، والارتباط الوثيق بالسياسات الأمريكية، لا يزال يدفع بالمملكة إلى خيارات انعطاف معقدة، رغم ضروراتها الموضوعية.


نقاشات الداخل تشير للأزمة

حتى في الداخل السعودي، بدأت النقاشات حول أن التكاليف باهظة الثمن للتورط الخليجي في اليمن، ولم تعد تجدي نفعاً في الحفاظ على الوزن السعودي في المنطقة، من انتكاسات التراجع التي تصيب أصلاً منظومة الهيمنة الأمريكية عالمياً.
ولو انطلقنا من أن هناك في داخل السعودية من يريد فعلاً التراجع عن سياسات التورط هذه، لوجدنا أنه حتى فكرة الانعطاف لم تعد خاضعة إلى إرادة سعودية محلية خالصة، فالإدارة الأمريكية التي تضبط خروجها المنتظم من الملفات المشتعلة في المنطقة (كما بدأته في المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، وحالياً مفاوضات جنيف التي تعطي فرصة ذهبية لحل الملف السوري)، لا ترتأي ضرورة تظهير الحلول السياسية كمناخ عام يحكم ملفات المنطقة. وعليه، فإنها، أي واشنطن، تدفع المملكة، ضمنياً لكن بشكل واضح، إلى الاستمرار في سياسية عض الأصابع فوق المستنقع اليمني، بل وتحرض باتجاه اندلاع ما تأمله من صراع سعودي- إيراني عسكري مباشر، علّ الاستنزاف الأكبر دولياً يؤتي خسارات أقل وقعاً على واشنطن مما يمكن تلقيه في هذه المرحلة، أي أن المملكة تضبط سياساتها عملياً على ساعات التزامن الأمريكي في أكثر من ملف، ويبدو الملف اليمني واحداً من هذه الملفات المطلوب تأجيل بعضها أو فتح بعضها الآخر، أمريكياً.

 

جولة قادمة.. رغم التعنت

علاوة عن مشكلة السعودية في توجهاتها الاستراتيجية العامة، ومجمل سلوكها الإقليمي، فإن الحال يصبح أسوأ بالنظر إلى أوراق التفاوض الموجودة في يد حليفهم، عبد ربه منصور هادي، وحكومته في أية تسوية مرتقبة، فأفضل ما يمكن البناء عليه، بالنسبة لهادي، هو القرار الدولي «2216» الصادر عن مجلس الأمن بخصوص الأزمة اليمنية، وهو ما لا ترفضه جماعة «أنصار الله»، إلا أن التفاوض المأمول حول تنفيذ هذا القرار بحد ذاته يؤدي إلى نتيجتين: أولها: أن المملكة ستعلن خسارتها السياسية بالنظر إلى بنك الأهداف الأولي المعلن من قبل تحالف «عاصفة الحزم»، والذي تضمن في أول بنوده إعادة حكومة هادي إلى صنعاء، والثاني: هو عدم القدرة على فرض تفسير أحادي الجانب لنص القرار، وأولويات تنفيذه، وهو ما ظهر عقب اللقاء الأول، بإعلان المبعوث الدولي إلى اليمن، اسماعيل ولد الشيخ، عن التقدم الملحوظ لكن غير الكافِ لمسار المفاوضات، أي أن هامش المناورة في التفاصيل- كخطوة تلي الرضوخ لمنطق التفاوض- سيصبح أكثر ضيقاً مع كل مرحلة يثبت فيها العجز السعودي عن إنجاز أي تقدم، كما حاولت سابقاً في معركة تعز وغيرها، أو في محاولات تأمين المناطق المحيطة بعدن، بعد الضربات الأخيرة لقوات هادي من قبل تنظيم «القاعدة».
وبانتظار الجولة القادمة، وإن تأخر موعدها نتيجة الضغط الإقليمي الجاري حالياً لمصلحة واشنطن، فإن الاتفاق قد جرى مبدئياً على اتخاذ تدابير بناء ثقة، تشمل الإفراج عن السجناء والمعتقلين دون استثناء. كما تم الاتفاق، بحسب المبعوث الدولي، على إنشاء مجموعة «الاتصال والتهدئة» التي تتألف من مستشارين عسكريين من الجانبين كليهما، بإشراف الأمم المتحدة، بينما شمل الاتفاق الأولي، وضع إطار تفاوضي لاتفاق شامل يستند على قرار مجلس الأمن «2216» لإنهاء النزاع، والسماح باستئناف الحوار السياسي الشامل.
من هنا، فإن الأساس السياسي بات حاضراً ومجهزاً لأية لحظة تجبر فيها الأطراف المتنازعة على العودة والاحتكام إلى موازين القوى الأكبر التي تحكم المشهد ككل. وإن طالت محاولات «الشغب الإقليمي» في الوقت الحالي، إلا أنها لا تزال مسقوفة بسقوف تلك الموازين الفاعلة في أكثر من ملف.