فلسطين.. نحو بداية مستأنفة
بدا من الصعب مداراة إحساس عميق بالخيبة والاستياء لدى ملايين الفلسطينيين والعرب خلال الأيام الفائتة، والتي شهدت تقديم طلب الحصول على عضوية لفلسطين في المنظمة الدولية. فقد أعلن الرئيس الأمريكي، أن بلاده ستستخدم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لإحباط المسعى الفلسطيني.. والعربي.
وحاول الرئيس الفرنسي أن يبيع الفلسطينيين بضاعة فاسدة، بعرض ما بين أيديهم ليشتروه مرة أخرى. أما جمهورية البوسنة والهرسك، (العضو غير الدائم في مجلس الأمن)، فأعلنت هي الأخرى معارضتها للطلب الفلسطيني، ليسمع العالم بوجودها، بعد أن طواها الغياب، وأسكنها مناطق النسيان، حتى لا نعلم إن كانت هناك بلاد تحمل هذا الاسم أم لا. هل تذكرون جمهورية «ميكرونيزيا»؟
ما أصاب المؤيدين لتقديم الطلب، حل أيضاً عند الذين أعلنوا معارضتهم لخطوة رئيس السلطة الفلسطينية، وأوضحوا منذ البداية، أنها لن تغير شيئاً على أرض الواقع، ولن تؤدي سوى لخسارة المزيد من الحقوق الفلسطينية الأساسية. فها هو الطلب يصطدم بالفيتو الأمريكي، وبالنفاق الغربي البشع، وبالعجز أو التماوت العربي، بعد أن حدد مقدموه سقفا للحقوق الوطنية، سيبدأ التفاوض من تحته لاحقاً.
يمكن تسجيل عدد كبير من الأخطاء التي رافقت مرحلة الإعداد لتقديم الطلب، ومن ثم الشروع في الخطوات الإجرائية، ومن ذلك الإصرار على التمسك بالمفاوضات، والتحذير المحموم من أي تحرك جماهيري، وصولاً إلى تنفيذ مناورات على قمع الاحتجاجات الفلسطينية المحتملة، برعاية المندوبين الأمريكيين «للتنسيق الأمني». باختصار كان هناك جهد للتخلص من كل أوراق القوة، إظهاراً لحسن النية، واعتماداً على حسن نوايا أعضاء المنظمة الدولية.
ولعله قد حان الوقت لمراجعة كل ما حدث. ولما هو أكثر من التلاوم، واستخدام عبارات من نوع: ألم نقل لكم؟ أقله بسبب ما تكشف حتى الآن، فقد أعادت وقائع الأيام الفائتة تظهير جملة من الحقائق المتصلة بموقع القضية الفلسطينية في العالم، بوصفها قضية تحرر وطني، وبمواقف الولايات المتحدة وكتلة النفاق الغربي مجتمعة، من قضايا العدل وحريات الشعوب وحقوقها. وكذلك بطرق خوض الصراع.
لقد تبين أن القضية الفلسطينية، ورغم السياسات التي أحدثت تآكلاً كبيراً في مكانتها، وحضورها الدولي، ما زالت تحظى بمكانة مميزة، لدى كثير من شعوب العالم، ودوله، وذلك بوصفها قضية شعب يخوض معركة تحرر وطني ضد الاحتلال. والحقيقة أن التصفيق والهتاف الذي رافق خطاب رئيس السلطة الفلسطينية، لم يكن بسبب الشحنة العاطفية القوية التي ميزت مقاطع كثيرة منه، وحسب، لقد كان هتافاً لفلسطين وحريتها، محمولاً ومستنداً إلى الإرث الكفاحي للشعب المقاوم، والمختزن لطاقة مقاومة استثنائية. وفي هذا الموقف من دول وشعوب العالم المناصرة للقضية الفلسطينية ما يفرض السعي نحو إعادة تعيين القضية الفلسطينية على حقيقتها، وبوصفها قضية تحرر وطني أولا وقبل كل شيء، والتحشيد من حولها ارتكازاً إلى هذا الوصف.
وفي هذا أيضاً، ما يدعو إلى وقف المراهنة على الموقف الأمريكي، أو الوقوع تحت وطأة الوهم بإمكانية تغييره. ليس من سبيل إلى ذلك عن طريق الخضوع لواشنطن أو تنفيذ رغباتها. وقد قيل قديما: «إن استرضاء روما يزيدها بطشاً». والأكيد أن محاولات استرضاء واشنطن تقود إلى النتيجة ذاتها. ولعل أحداً لم يكن يتوقع أن يتحدث الرئيس الأمريكي باللغة التي تحدث بها، مخاطباً رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني والسلطة الفلسطينية في آن معاً. هنا لم يجد رئيس الولايات المتحدة حرجاً في السخرية من المنظمة الدولية وقراراتها، «التي لا تصنع السلام». والرسالة واضحة لكلا الطرفين: ورقة إعفاء لدولة الاحتلال من القرارات السابقة واللاحقة، وبطاقة طرد للفلسطينيين من جنة المنظمة الدولية. بالطبع سيستخدم رئيس الولايات المتحدة، لغة مختلفة حول القرارات الدولية، عندما لا تكون «إسرائيل» هدفاً لها. وسنعاود الحديث عن الكيل بمكيالين، وكأننا نكتشف البارود مرة أخرى.
ليس من ضرورة هنا لمعاودة الحديث عن كل ما هو معروف عن العلاقة الأمريكية الصهيونية، لكن من الضرورة دوماً استذكار التكوين المشترك لدولتين استيطانيتين إحلاليتين قامتا على القتل والطرد والاقتلاع والاستيطان، وتستمران بالقوة العارية والعدوان. ومن يرد يستطيع أن يخوض طويلاً في اكتشاف أوجه التشابه في الفكرة والنشأة والتكوين والمسار، ومن ثم سيكون سهلاً الامتناع عن الخوض في مسارات المفاضلة ما بين محافظي جورج بوش (الابن) الجدد، وبين إدارة أوباما التغييرية. فقد تجد خلافاً حتى على الحقائق الهندسية، وحين يصل الأمر إلى «إسرائيل» فليس سوى التطابق والمغالاة والمزايدة.
وعندما تعرف إلى أين تتجه رياح واشنطن، في قضايا الصراع العربي - الصهيوني فليس من داع للبحث عن رياح أوروبية معاكسة.
تبقى كلمة تخص الموقف العربي. ثمة كثير من المثقفين والسياسيين العرب، ممن يرفضون الخوض في الحديث عن المكونات المشتركة بين الولايات المتحدة، ودولة الاحتلال. ويقولون دوماً: «إن العالم يدير السياسات وفق المصالح». ولنسلم بأن هذا يصح حتى على العلاقة بين واشنطن وأوروبا الغربية من جهة، ودولة الاحتلال الصهيوني من جهة أخرى، فماذا عن سياسة المصالح عربياً؟ وهل نستطيع التصديق أن الدول العربية الممتلكة لثروات خيالية، لا تستطيع أن تقنع حتى البوسنة والهرسك بالتصويت لصالح الطلب الفلسطيني؟ ناهيك عن السؤال حول مدى إمكانية تأثيرها على المواقف الأمريكية والأوروبية من بوابة المصالح أيضاً؟
سيبدو كل كلام بعد ذلك، محاولة للحديث في البديهيات، أسئلة وأجوبة. بدلاً من هذا، ثمة نقطة بدأ يعرفها الفلسطينيون جيداً.. لن تكنس هذا الاحتلال سوى مقاومة متواصلة، متعددة الأشكال، تفرض هي على الواقع إعادة تشكيل نفسه. يستطيع الفلسطينيون استئناف ما بدؤوا به، وجربوه، وأخرجهم من التهميش والتبديد إلى الحضور الفاعل.