صخرة دايان... وانهيارات جبل «كامب ديفيد»!
ربما شكَّل القرار المصري القاضي بإلغاء إتفاقية تزويد إسرائيل بالغاز من طرف واحد مفاجأةً للجميع. ولعل هذه المفاجأة لم تستثنى منها أحداً، لا في مصر ولا خارجها، بل وربما حتى من أوعز لهم في السلطة التنفيذية الإنتقالية باتخاذه، من الجهة الوحيدة مالكة القرار المصري راهناً وإلى حين، ونعني «المجلس العسكري». على الفور، تم استحضار «كامب ديفد»، وكان هذا الإستحضار في خارج مصر أكثر منه داخلها، لاسيما لدى المعني الأول به إسرائيل ومعها الغرب بالطبعً، حيث طرح الحدث المصري المفاجىء مصيرها لدى كليهما قيد التفكُّر، باعتبار أن مثل هذا الإلغاء قد يكون باكورة لما قد تحمله تداعيات جاري التحولات التي تعيش مصر ما بعد25 يناير مخاضها العسير، والتي كم يخشى الغرب وإسرائيله أن تطال هذه الإتفاقية مستقبلاً. هذا الإستحضار لم يقلل منه مسارعة كلا الطرفين، المصري والإسرائيلي، إلى محاولة التقليل من أبعاد القرار والتهوين من نتائجه، حتى لكأنما كان هناك إتفاق ضمني بينهما على ذلك. الوزيرة المصرية فايزة أبوالنجا أشارت الى أن هذا الإلغاء ماكان ليهدف إلا إلى تفادي شروط عقدها المجحفة ولوَّحت بإمكانية تعديله والعودة إلى إبرامه. ومن بعد كثر المتحدثون، أو الذين أوعز لهم بالتحدث، في وسائل الإعلام المصري شارحين أن الإتفاقية ليست سوى عقد بين شركتين لا دولتين، وبالتالي لا من شأن لها باتفاقية (كامب ديفيد) ولا تمس سلامها المبرم بين طرفيها. وأكد المؤكدون أن الإلغاء كان قانونياً ومن حق مصر إتخاذه نظراً لتأخر الطرف المقابل في دفع المستحقات المترتبة عليه بموجب العقد. بل ذهب البعض الى الإعتقاد بأن الأمر برمته قد يكون متفقاً عليه بين الطرفين، وربطوا هذا بلا جدوى الإتفاقية عملياً في ظل إنقطاعات ضخ الغاز للمرة الخامسة عشرة خلال عام الثورة الأول فحسب لتعرض أنابيبة للتفجير المتكرر تباعاً، الأمر الذي حوَّل هذه الإتفاقية إلى عبىء أمني بالنسبة لكليهما قد تكون له تداعياته المستقبلية التي من الأفضل لهما تفاديها، وحتى هناك من زاد فاشار الى مكتشافات الغاز الوفيرة في شواطىء فلسطين المحتلة.
ما أسلفناه قد يعززه وربما يقنع الكثيرين به أن لا أحد في مصر قد تعَّرض، مثلاً، الى إتفاقية (الكويز)، التي هي الأخطر، أو غير المختلف على كونها لاتصب إلا في مصلحة إسرائيل. كما أن الجميع نخباً وقوى، وانتقاليين ومبشرين مفترضين بالسلطة، أومعارضين مبكرين لهم، وعلى إختلاف الألوان والمشارب، يتجنبون مااستطاعوا مقاربة «كامب ديفيد» ويحاولون جهدهم الإبتعاد عن شبهة المس بها. تستوي في هذا كل القوى والإتجاهات السياسية على اختلافها، بل لعله الأمر الوحيد الذي قد لايختلف بشأنه كثيراً كل مرشحي الرئاسة و تحاول برامجهم وحملاتهم الإنتخابية تجاهله...وصولاً إلى منع الجيش المصري لاحقاً لمسيرة شعبية حاولت الخروج من مدينة العريش بهدف إزالة ما يعرف ب«صخرة دايان» التي كان المحتلون الإسرائيليون قد أقاموها تخليداً لأحد عشر من طياريهمً قتلوا إبان إحتلالهم لسيناء. قد يقول قائل إن ظروف مصر ومستوجبات ماتفرضه عليها مراحل مخاضها التغييري العسير قد تفرض عليها تراتبية أولوياتها، وعليه، فمن الظلم لها مطالبتها الآن بأكثر مما تستطيعه في مثل هذه المرحلة الصعبة. هذا صحيح، بيد أنه لايقلل من أن فيما أشرنا إليه آنفاً ما يعزز ماسبقه ويقنع من سيقتنعون به.
كل ما تقدم قد يسهل التسليم به لولا أنه يأتي بعد ثورة 25 يناير التي دقت بعمق نواقيس التغيير في مصر ولم تفلح مناورات ومراوحات بل مؤامرات عام إنتقالي ونيف في إحتوائها أو إطفاء جذوة ميادينها، رغم كل ما يتبدى من مظاهر التعثر التي تعتري راهن الحالة المصرية في ظل هذه التجاذبات الحادة والمكاسرات المستمرة ولجة التداعيات المريرة المتسارعة التي تخوضها قوى الثورة غير الموحَّدة مع متعدد أشكال وتجليات جبهة الثورة المضادة. وكونه أيضاً، يأتي بعد أحداث من شأنها أن كشفت عن مدى عمق وتزايد راسخ العداء للعدو التاريخي لمصر وكامل كتلة أمتها العربية في الوجدان الشعبي المصري. من مثل، جريمة العدوان الغادر والدموي على حرَّاس الحدود المصريين شبه العزَّل مع فلسطين المحتلة، والذي أعقبه محاصرة الجماهير للسفارة الإسرائيلية في القاهرة واقتحامها ورفع العلم المصري عليها، ثم فيما بعد إقفالها واستعادة محتوياتها إلى الكيان بعد رفض مالكي المبنى تجديد عقد إيجارها واستحالة العثور على مالك مصري واحد يقبل بتأجيرهم مقراً جديدا تشغله سفارتهم.
...وفي الجانب الآخر، هل بالإمكان تجاهل كل ما أثاره إلغاء إتفاقية الغاز لدى الكيان غير الرسمي، أو يمكن عزله عن متعدد تصريحات جنرالاته الداعية الى الإستعداد لخوض حروب مع مصر يرونها القادمة لا محالة، والمطالبة، مثلاً، بإعادة تشكيل ما كان يعرف بالفيلق الجنوبي...ماذا عن ما سُرِّب حول ما يدعى «تقريرليبرمان»، الذي يصف التغييرات الجارية في مصر بالأخطر على أمن الكيان من النووي الإيراني؟ أو تشبيه نتنياهو لسيناء المصرية بالغرب الأميركي؟!
سيأخذ ما أثارته الخطوة المصرية المنطقية موضوعياً مداه، وستتعدد التفسيرات وتتراكم التحليلات، لكنما ستظل الحقيقة الماثلةً التي لا من سبيل لحجبها بعد اليوم، وهى أن مصر قد عاشت على مدى عقود «كامب ديفيد» الكارثية، هذه الملحقة لأفدح الضرر بالإرادة السياسية العربية، والتي عانت الأمة ماعانته من تداعياتها الوخيمة ولا تزال، ما يُتفق على توصيفه «سلاماً بارداً»، ذلك بفضل من رفض الشعب المصري المطلق للتطبيع مع عدوه... سلام لم يقلل من صقيعه آنذاك أن النظام المصري على مدى تلك العقود العجاف كان نصيراً أمنياً بامتياز لعدو المصريين لدرجة أن استحق بجدارة أن يخلع الإسرائيليون عليه صفة (كنزهم الإستراتيجي)...بعد 25 يناير بات هذا الموصوف بالسلام البارد مستحيلاً... «صخرة دايان»، وكل الصخور التي يلقيها إنتقاليو بقايا الفلول في مجرى التغيير المصري، ليست سوى فتات من متراكم إنهيارات جبل «كامب ديفيد».
■ نشرة كنعان