مصر واستعادة الدور الإقليمي

مصر واستعادة الدور الإقليمي

تواصل مصر إعادة ترتيب علاقاتها الدولية والإقليمية، بعد موجة الحراك الشعبية الثانية، عبر إيلاء أهمية قصوى للسياسات المتعلقة بالحفاظ على الأمن القومي المصري، في ظل التهديدات الجدية الماثلة في الإقليم، آخذة في تثبيت ركائز لمشاريع كبيرة ببعديها الإنمائي والسياسي.


يمثل الأمن المائي جزءاً أساسياً من الأمن القومي المصري، وركيزة أساسية في حياة المصريين، ليغدو مصدر فخرهم، وقلقهم في آن معاً، ولا سيما بعد الشروع في إنجاز سد النهضة الإثيوبي. من جانب آخر، تبدو محطة «الضبعة»- المتفق عليها بين روسيا ومصر- واحدة من العلامات الفارقة في العلاقات الثنائية، بما يسهم مع جملة مسائل أخرى في فتح المستقبل لمصر مجدداً كقوة وازنة..
حول السد.. وخلفيات النزاع
تعود فكرة إنشاء سد النهضة  إلى عام 1964، تحت مسمى «سد الألفية»، غير أن إثيوبيا شرعت فعلياً ببنائه منذ عام 2011. هنا، تجدر الإشارة إلى أن دولة المنبع استفادت حينها من الوضع الداخلي المتوتر في مصر، وزادت من وتيرة الإنجاز خلال الفترة التي استلم فيها تنظيم «الإخوان المسلمون» السلطة في البلاد، ناشراً حالة من التخبط ظهرت في اجتماع قوى سياسية أداره الرئيس المخلوع، محمد مرسي، إذ دار الحديث فيه عن الخطوات الواجب اتخاذها، عقب الإعلان الرسمي عن البدء بالأعمال الإنشائية للسد.
أدت الآراء المتضاربة للمجتمعين على مرأى من الشارع المصري، ثم انتهاء الاجتماع دون اتخاذ إجراءات واضحة وملموسة على الصعيد الديبلوماسي بالحد الأدنى حينها، إلى نتيجتين رئيسيتين: أولهما، تشدد متزايد في مواقف إثيوبيا، والثانية، قلق متصاعد في الشارع المصري،  ليصبح مشروع السد واحداً من الملفات الحاسمة التي قادت إلى موجة الحراك الشعبي الثانية، لما يشكله نهر النيل من أهمية استراتيجية في حياة المصريين.
بعد موجة الحراك الشعبي الثانية، كانت أثيوبيا قد أنجزت ما يقارب نصف المشروع، أي أن ضمان الحقوق المصرية من مياه النيل بات آيلاً إلى التعقيد، حيث يغدو السد يوماً بعد يوم «أمراً واقعاً».
من حيث المبدأ، لا تنكر مصر والسودان حق إثيوبيا في إقامة مشاريع ذات بعد تنموي يعود بالنفع على الشعب الإثيوبي، فيما تؤكد دولتا المصب على حقهما في الاستفادة من مياه النهر، حسب اتفاقية «مياه النيل» لعام 1959. واستطاعت الدول الثلاث في آذار/2015 التوقيع على «إعلان المبادئ»، تلته جملة من المفاوضات أنتجت في 29/12/2015 «وثيقة الخرطوم» المرتكزة إلى «الإعلان»، والتي تضم إجراءات تفصيلية حول الدراسة الفنية لحماية الحصص المائية في فترة تمتد من 8 أشهر إلى عام.
من الممكن أن تكون مصر قد أحرزت تقدماً في الجوانب التقنية للملف، إلا أن المدد الزمنية للدراسات الفنية، والجولات الماراثونية التي تجاوز عددها 11 جولة حتى اليوم، إضافة إلى تسريع تنفيذ الأعمال الإنشائية للمشروع، تطرح سؤالاً حول جدوى المفاوضات طويلة الأمد مع الجانب الأثيوبي، وعدم رفع الملف من المستوى التقني إلى المستوى السياسي، وإن استدعت الحاجة التوجه إلى الهيئات الدولية المعنية لحل القضية، خصوصاً في ظل ضيق الوقت قبل أن يصبح السد أمراً واقعاً دون تحديد متفق عليه وواضح للحصص المائية في دولتي المصب.
في الإشارات التي يطلقها الجانب الأثيوبي (تحديداً بعد تحويل مياه النيل الأزرق مؤخراً، ليمر بالسد لأول مرة، بالتزامن مع جولة المفاوضات الأخيرة) فإن إثيوبيا تضع في أولوياتها إتمام المشروع بغض النظر عن سير المفاوضات مع دول المصب، وعليه، فإن الجانب المصري المعتمد على التفاهمات البينية قد ينتظر نتيجة الدراسات الفنية التي من المؤكد أنها ستبين آثار السد على حصتها المائية، غير أن عامل الوقت الضاغط قد يلزم مصر بخيارات أكثر ضغطاً وتأثيراً على مآلات هذا الملف.
تجهيز الداخل للمشاريع الكبرى
تمضي مصر في مشاريع نوعية كبيرة، كان أهمها خلال عام 2015 إنجاز قناة السويس الجديدة، ومؤخراً تدشين المرحلة الأولى من المشروع القومي الخاص باستصلاح مليون ونصف المليون فدان من الأراضي الزراعية في منطقة الوادي الجديد، كما استفادت مصر من انفتاحها على الجانب الروسي في الاتفاق على إنجاز مشروع محطة «الضبعة» النووية، بعد سنة من المباحثات.
من شأن مشروع «الضبعة» إضافة امتياز جديد في البعدين التنموي والسياسي، فالمحطة المنتظر البدء بإنشائها خلال عام 2016، وتشييدها في عام 2022، مصممة لتنتج 4800 ميغاواط. وتصل قيمة المشروع إلى 26 مليار دولار لبناء المحطة، على أن تمول روسيا 85% من قيمة المشروع على شكل قرض طويل الأجل مقسَّم على 35 سنة، حيث تبدأ مصر في سداد قيمة القرض، بفائدة تبلغ 3% فقط، ابتداءً من عام تشغيل المحطة بالإنتاج.
من الناحية السياسية، يسهم المشروع في تكريس محورية مصر إقليمياً، ويفتح الباب أمام دول جديدة لامتلاك الطاقة النووية السلمية، وكسر احتكار القوى العظمى لهذا «الامتياز». وفي المحصلة، تثبيت واقع دولي جديد، لا تصبح فيه هذه الميزة ورقة ضغط سياسية أو عسكرية، كما حصل مع إيران، قبل إنجاز «ملفها» النووي.
لكن، وبالنظر إلى ضخامة المشاريع الاستثمارية الجارية في مصر مؤخراً، إلى جانب عمل القاهرة على قيام واقع إقليمي آمن، بالاشتراك مع قوى السلم العالمي، فإنه من شأن ذلك أن يعكس بالتدريج واقعاً داخلياً متغيراً لصالح الشعب المصري، الذي يعد رافعاً حقيقياً لمشاريع التنمية، مثلما برز دوره في تجهيز قناة السويس الجديدة. وفيما تشكل المشاريع العملاقة جزءاً مهماً من الاستحقاقات الداخلية، فإن الجزء الأساسي من تلك الاستحقاقات متمثلٌ في تفعيل المعركة داخل جهاز الدولة ضد مراكز الفساد الكبير المعيقة لأي تقدم اقتصادي- اجتماعي يصب في مصلحة الشعب المصري.