البراغماتية الأمريكية والأسئلة الصهيونية الوجودية
بعد الحرب العالمية الثانية، استكملت الولايات المتحدة- بوصفها الإمبريالية حديثة النشأة في ذلك الحين- ما بدأه البريطانيون في بدايات القرن العشرين من دعم منقطع النظير للكيان الصهيوني، وتطوير دوره الوظيفي في المنطقة، كقاعدة متقدمة للإمبريالية.
أفضى هذا الدعم إلى إنتاج تفوق ما لهذا الجسم الغريب على حساب دول المنطقة، ابتداءً من الجانب العسكري التقليدي، وصولاً إلى تطوير القدرات النووية. وهو التطور ذاته الذي طرح السؤال الساذج والسطحي حول طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، ومن يحكم من في نهاية المطاف.
داعمون ولكن: الظرف الدولي أقوى
تحتاج الولايات المتحدة، وهي في طور تراجعها الواضح، إلى إعادة ترتيب عدد كبير من التفاصيل الحاكمة لعلاقتها مع حلفائها وأدواتها. في المقابل، يتحسس الكيان الصهيوني المؤشرات الكبرى على انخفاض مستوى التحكم الأمريكي في ملفات العالم: من الاتفاق النووي الإيراني، إلى سير حل الأزمة السورية، بالتزامن مع تطورات الحراك الشعبي في فلسطين المحتلة، مروراً بخلع «الإخوان المسلمين» في مصر على مرأى من الولايات المتحدة.
بالنسبة لكيان الاحتلال، تمثل الحقائق المذكورة آنفاً محددات ذات وزن عال في رسم مستقبل المنطقة لغير مصلحته. لكن، وعلى الرغم من حالات الاعتراض التي عبر عنها في أكثر من مناسبة وبأكثر من طريقة، إلا أن كيان العدو لا يزال الأشد تناغماً مع سياسات واشنطن الحريصة، حتى الآن، على «تطمين» الكيان بصفقات يجري إبرامها في لحظات «التنازل» الأمريكي. فخلال مفاوضات النووي الإيراني، قدمت الولايات المتحدة عدداً من طائرات «F35» لحكومة الاحتلال، ورفعت المساعدات العسكرية الأمريكية إلى 4 مليار دولار، على أن يبدأ التنفيذ في عام 2017..!
التجاذب: بين متراجع ومعتاش
مؤخراً، نشرت بعض المواقع الإلكترونية الأمريكية، ما أسمته بـ«تسريبات» من تقرير للمخابرات المركزية الأمريكية حول الكيان الصهيوني, إذ عبرت فيه الوكالة عن شكوكها في بقاء الكيان عشرين عاماً. وخلص التقرير إلى أنه «بدون عودة لاجئي 1948 ولاجئي 1967، لن يكون هناك حل دائم وثابت ومستقر في المنطقة»، مع الإشارة إلى أنه جرى إبلاغ بعض نواب الكونغرس بهذا التقرير، حسب المواقع الناشرة.
في صدد هذه «التسريبات»، فإن ريع القوة الأمريكية حتى غزو العراق, سمح لها بتحمل أعباء الكيان الصهيوني وخساراته اللاحقة في جنوب لبنان وقطاع غزة، كون الإدارة الأمريكية «كسبت» في أماكن أخرى بعقلية «شرطي الكوكب». لكن الانكفاء التدريجي للولايات المتحدة في السنوات الأخيرة, يدفع الأمريكيين إلى إعادة الحسابات في جدوى دعمهم الواسع للكيان الصهيوني، دون قدرة الأخير على تقديم الدرجة الكافية من التثمير التي ترضي الجزء الفاشي من الإدارة الأمريكية.
ورغم التهويل الإعلامي حول «الدور الموجِّه» الذي تلعبه اللوبيات الصهيونية داخل الإدارة الأمريكية، إلا أن منطق ذلك التهويل انهار بشكل جلي من خلال وضوح الإدارة الأمريكية في بحثها عن مصالحها، أولاً..
إن التناقض بين المتراجع دولياً (الولايات المتحدة)، وبين المستمد وجوده على لحظات تقدمها (الاحتلال الصهيوني)، من الممكن أن يصل في المرحلة المقبلة إلى حدوده القصوى. وعليه، فإن الإشارات الأمريكية المماثلة للتقرير السابق مؤهلة للتزايد بمقدار التراجع الذي على الولايات المتحدة أن تتعامل بمقتضاه. وتحاول الإدارة الأمريكية اليوم أن تدفع بخلافاتها مع المحتل نحو مخرجات لن تستطيع لاحقاً تثبيتها، وهو ما بدا مؤخراً في تصريح وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، أن «حل الدولتين ليس حلماً مستحيلاً, ولكنه يتطلب شجاعة»..!