التنظيم والفرز... نحو طمر الطغم المالية

التنظيم والفرز... نحو طمر الطغم المالية

لم تجد السلطة السياسية لنفسها مناصاً، إلا عزل نفسها عن صوت الاحتجاجات التي ارتفعت في ساحة رياض الصلح في بيروت. الجدار الفاصل الذي وضع بين مقر السراي الحكومي ومكان تجمع المعتصمين في العاصمة اللبنانية، أشار إلى عمق الهوة بين حكومة «الطائف» التحاصصية من جهة، وشعبها المنقلب على الثنائيات الثانوية من جهةٍ أخرى.

عشرون ألف متظاهر، حسب التقديرات الإعلامية، رفعوا أصواتهم يوم السبت الماضي 22/8/2015، احتجاجاً على استمرار الحكومة اللبنانية- بجميع القوى السياسية المشاركة فيها- بالنهب الواسع لقوت الشعب، وتسويف حل الملفات العاجلة، وما تلا ذلك من قمعٍ للمتظاهرين.

إذاً، بدأت القصة مع «ملف النفايات». شهرٌ ونصف من المظاهرات والاحتجاجات في مختلف المناطق اللبنانية التي هبَّ أهاليها رفضاً لطمر النفايات في قراهم التي تعاني أصلاً من انتشار الأمراض الخطيرة، كنتيجة مباشرة لانبعاثات المصانع والمعامل الخاصة- المملوكة من أمراء الحرب الأهلية اللبنانية.

عن وباء اسمه الـ«NGOs»

في وقتٍ كان فيه زعماء التحاصص السياسي في لبنان يدرسون، خلف الأبواب المغلقة، إمكانية تحويل أزمة النفايات إلى «صفقةٍ رابحة» تتقاسمها الأحزاب السياسية الممثلة في الحكومة، مشى الحراك الشعبي خطوة إلى الأمام بإعلان الاعتصام في ساحة رياض الصلح، بالقرب من السراي الحكومي ومجلس النواب.

دخل بعض ما يسمى بـ«المنظمات غير الحكومية» على خط الحراك بشكلٍ فاعل. تحت سلطة الكاميرا، ودعمٍ من أصحاب الفضائيات، احتل ممثلو هذه المنظمات، في بادئ الأمر، الخطاب السياسي للحملة. وتحت شعار «طلعت ريحتكم» احتشد الآلاف من اللبنانيين في الساحة مطالبين بحقوقهم المشروعة. وعلى عادة الـ«NGOs»، تراجع ممثلو هذه المنظمات عند أول إيعاز من قوى النهب اللبناني، ليعاودوا إعلان تنظيمهم وانضمامهم لتظاهرة السبت 29/8/2015، متغنين ومشددين على عدم «تسييس» حراكهم، كما أعلنت الناطقة باسمهم في مؤتمر صحفي يوم الخميس 27/8/2015..!!

رغم الخلخلة التي أصابت الحراك على مدار يومين، ودخول عناصر وصفتهم أوساط إعلامية بأنهم «مشاغبون» إلى التظاهرات، إلا أن تراجع «المنظمات (غير) الحكومية» وانفضاح أمرها شكَّلا عاملاً إيجابياً في فرز القوى المشاركة في الحراك، مما ساهم باقتراب الحركة النقابية والشيوعيين واليساريين الموجودين أصلاً في عملية التنظيم، تحت شعاراتٍ عدة، منها «بدنا نحاسب»، بالتوازي مع انضمام شخصيات فاعلة مثل النقابي البارز حنا غريب، ووزير العمل السابق، شربل نحاس، لخط الحراك بشكلٍ فاعل.

رموز «الطائف» يقتسمون النفايات..!

على الرغم من المحاولات المحمومة التي جرت بهدف تبرئة هذا التيار أو ذاك الحزب من المسؤولية عن تفاعل أزمة النفايات، غير أن ما خرج يوم الاثنين الماضي عن جلسة مجلس الوزراء كان كافياً لفهم عقلية نظام التحاصص. ففي الاجتماع المذكور، رست مناقصات العروض لطمر النفايات على عددٍ من أصحاب وممثلي الشركات المحلية والأجنبية، هذه الشركات التي تنقسم في تبعيتها إلى الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان كلها. من قوى 14 آذار إلى قوى 8 آذار، نال الجميع حصةً ما في صفقة النفايات، قبل أن يجري التراجع عنها سريعاً تحت ضغط التظاهرات، ونتيجة للخلاف بين أقطاب النظام نفسه حول توزيع الحصص فيها.

هذا ويكمن حل «ملف النفايات» كما تطرحه التيارات النقابية واليسارية، في إعادة الملف إلى السلطة الحقيقية المسؤولة عنه، وهي البلديات، بشرط أن تجري إعادة أموال «الصندوق البلدي» التي سلبها نظام التحاصص من البلديات، كي تتمكن من إنجاز عمليات إعادة التدوير والطمر الصحي.

رفع سقف المطالب (فقرة منفصلة)

رفعت حملة «بدنا نحاسب» من سقف المطالب التي خرجت بها بادئ الأمر، بعد انضمامها للحراك وتعرضها للقمع، من المطالبة بحلٍ حقيقي لـ«عقدة النفايات»، بطريقة مدروسة بيئياً، دون جر المواطنين إلى دفع ثمن ذلك، وصولاً إلى المطالبة بمحاسبة المسؤولين عنها، بمن فيهم وزير البيئة، مروراً بضمان حق التجمع والتظاهر ومحاسبة المسؤولين عن قمع التظاهرات، وعلى رأسهم وزير الداخلية، وصولاً إلى استقالة الحكومة وإجراء انتخابات نيابية على أساس قانون النسبية واعتبار لبنان دائرة واحدة، والتأكيد على لا شرعية المجلس النيابي الممدد لنفسه، وصولاً إلى إنهاء منطق التحاصص وإسقاط الطغم المالية. 

التحرك الشعبي: مآلات محتملة 

وإن كانت التظاهرات عموماً غير طارئة على لبنان، إلا أن المشهد الجديد الذي نراه اليوم، من جدية في المطالب ومستوى تنظيم جيد بالعموم، مع الارتفاع المطرد في أعداد المحتجين، يفتح الباب للتساؤل حول السبب الحقيقي الكامن وراء هذا المشهد.

مرة جديدة، تعتاش أنظمة التحاصص في المنطقة على مستوى محدد من التوازن الدولي  والإقليمي، ولدى أي خلل في هذا التوازن، تدخل أنظمة التحاصص هذه في حالة من الفوضى والارتباك، توازيها اليوم حالة نهوض الحركة الشعبية في العالم، فينتج المشهد الحالي. وهنا، يبدو استمرار الحراك نحو البوصلة الصحيحة، مرهون بمستوى التنظيم وبتحويل الحركة الشعبية إلى حركة سياسية جدية منوطٌ بها إنجاز التغيير المطلوب.