الكيان الغاصب..أسهم المواجهة ترتفع
حتى اليوم، لم يكمل الكيان الغاصب عامه السبعين منذ زرعه كقاعدة متقدمة في المنطقة، هذا العمر المطابق تقريباً لعمر مرحلة التراجع التي أصابت حركات التحرر في العالم، غير أن تغير الظرف الدولي السابق، وانفتاح الأفق أمام قطب الشعوب اليوم، باتا يطرحان سؤالاً ملحاً حول الآجال الباقية لهذا الكيان في منطقتنا.
بشكلٍ متسارع، تذهب معظم الملفات الدولية والإقليمية نحو حلولٍ سياسية، سمتها الرئيسية أنها مخالفة للمصالح العميقة لواشنطن، ومشتقة من موازين القوى الدولية الجديدة، بما يكرس التراجع الأمريكي، المتسارع أيضاً، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
ترتكز نقطة الانطلاق في تحديد نهايات الكيان الصهيوني، كقاعدة ضاربة للإمبريالية وقوى رأس المال المالي العالمي في منطقتنا، بتحديدٍ مسبق لوضع القوى التي يمثل مصلحتها، وخصوصاً من زاوية قدرتها على مواصلة هيمنتها على العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
الولايات المتحدة والمستنقعات
من خلال إشعالها للعديد من الحروب الهمجية منذ مطلع القرن الحالي، عبَّرت الولايات المتحدة ضمنياً عن وصول أزمتها إلى تلك المرحلة التي أفلست فيها معظم أدواتها التقليدية للحفاظ على هيمنتها في العالم منذ تفكك الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، ذلك بحكم بنيتها الإمبريالية المنتجة للأزمات الدورية، والتي أصبح من الضرورة بمكان، من وجهة النظر الأمريكية، زيادة منسوب محاولات تصدير هذه الأزمة إلى الخارج، على أمل الحفاظ على مكانة الولايات المتحدة في رأس هرم القوى العالمي، غير أن فشلها في مواصلة إذكاء الحرائق اليوم، يعيد كرة الانهيار إلى ملعبها الداخلي.
في نهايات مرحلة التراجع ذاتها، كان الاحتلال الصهيوني قد أعلن انسحابه من جنوب لبنان، تحت ضربات المقاومة في لبنان، وما تلا ذلك من معارك عديدة خرج فيها مهزوماً يرثي مقولة «الجيش الذي لا يقهر»، وصولاً إلى جملة الإشارات على تراجع وزن الولايات المتحدة في المنطقة، كالخروج من العراق، واستعصاء الملف النووي الإيراني على الحل وفق الشروط الغربية... إلخ.
بالنتيجة: سارت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في مسار التراجع ذاته، وإن عبر عن نفسه أمريكياً باستخدام الوسائل العسكرية والتدخلات المباشرة والغرق في مستنقعات عديدة، ثم باللجوء إلى الوسائل غير المباشرة، عبر مجموعة الحروب البينية في العالم، وصولاً إلى انسداد أفق التدخلات العسكرية غير المباشرة لصالح الحلول السياسية والقوى الداعمة لها، فقد عبر عن نفسه صهيونياً بمجموع الهزائم والحروب الخاسرة التي خاضها، والتي أدت به لتركيز القوة في الداخل الفلسطيني، فاقداً عملياً الإمكانية على لعب الدور الوظيفي المطلوب امبريالياً بشكلٍ جيد.
الانكفاء والشلل.. وانفتاح الأفق
بالنظر إلى أن القضية الفلسطينية لا تخرج عن سياق التوازنات الدولية وتغيراتها، يمكن القول أن حالة التراجع التي أصيب بها الكيان (والتي تجلت بانكفائه المستمر نحو الداخل الفلسطيني من خلال الاستفزازات العنصرية المتكررة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948)، تزيد عملياً من نضج الظروف الموضوعية بشكلٍ كبير أمام الشعب والفصائل الفلسطينية لملاحقة العدو بالضربات القاصمة، وهو ما يفتح الباب واسعاً لإمكانية النهوض بانتفاضة فلسطينية ثالثة، تتميز عن سابقاتها بتغير موازين القوى الدولية والإقليمية، فضلاً عن ميزان القوى العسكري في الداخل.
وفي هذا الصدد، تشكِّل الاستفزازات الصهيونية المتكررة، من بناء المستوطنات بشكل مطّرد، وهدم البيوت وترحيل عائلات بأكملها بحجة «البناء المخالف», وحالات الاعتقال والتضييق المستمر على الفلسطينيين, وصولاً إلى التلويح بورقة «داعش» التي باتت تنجز مهاماً محددة داخل قطاع غزة المحاصر، عاملة على «إشغال» الحالة المقاومة في القطاع قدر الإمكان، جميع ما سبق بات يشكل الشرارة المطلوبة للمضي في إشعال الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، استناداً إلى الظرف الجديد.
بوادر انتفاضة ممكنة موضوعياً
عند القول بأن المنطقة ذاهبة إلى تهدئة، لا سيما في البلدان التي كانت ساحة عمل مكثف للغرب طوال الفترة الماضية، فإن ذلك يترجم على أرض فلسطين بتصاعد وتسارع الحركة الشعبية المقاومة، لا تهدئتها، كما أن انتفاضة فلسطينية ثالثة ستكون مشروطة حكماً في تصعيدٍ شعبي في الضفة الغربية، وهو ما نراه يتنامى اليوم، من حادثة الطفل محمد أبو خضير في القدس المحتلة، وليس انتهاءً بالجريمة التي ارتكبها المستوطنون في نابلس الأسبوع الماضي بحرقهم للطفل علي دوابشة، الحادثة التي زاد على إثرها التوتر داخل الأراضي المحتلة, وإعلان استنفار أمني صهيوني, فيما تبدو التصريحات الحكومية الصهيونية الرافضة، على غير العادة، لهذا النوع من الأعمال, دلالة على خوف جدي من اندلاع انتفاضة تضع الكيان عند استحقاقٍ وجودي.
مشهد الأسبوع الماضي
التصعيد على مختلف الجبهات، وعلى أكثر من صعيد، كان ذلك سمة المشهد العام في فلسطين المحتلة خلال الأسبوع الماضي. إذ فتحت حادثة الشهيد الدوابشة الباب أمام انفجار العديد من التراكمات، والتي استجلبت معها تصعيدات ميدانية وخطابية على كامل مساحة فلسطين.
في أول ردود الفعل على الحادث، دعت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، في بيانٍ صحافي لها إلى «إعلان الغضب العارم، والرد بكل قوة على هذه الجريمة بتصعيد المقاومة في وجه الاحتلال وقطعان المستوطنين، عبر المواجهة الجماعية والمُنظمة، وتشكيل اللجان الشعبية في القرى والمخيمات والمدن الفلسطينية في الضفة للتصدي للمستوطنين وجرائمهم، وذلك بعد فشل أجهزة أمن السلطة في حماية أبناء شعبنا»، مشددة على ضرورة «انجاز المصالحة واستعادة الوحدة، وتغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية الفئوية».
في المقابل، اعتبر الناطق العسكري باسم «كتائب القسام»، أبو عبيدة، أن «لشعبنا الصامد وقواه المقاومة ومجموعاته المجاهدة الحرية والحق الكامل في الرد، بكل طريقةٍ ممكنةٍ، لردع المغتصبين ومن يقف وراءهم، والانتقام لدماء الشهداء، وإشعال الأرض تحت أقدام جنود العدو ومغتصبيه». وفي نوعٍ من الرد على الحادثة، نشرت «القسام» تصويراً تخيلياً لإمكانية كتائبها على إسقاط الطائرات الصهيونية إذا ما حلقت في سماء غزة، مذيلاً بجملة «سماؤنا مقدسة.. طائراتكم فيها محرمة» باللغتين العربية والعبرية.
بدوره، لفت القيادي البارز في تنظيم «الجهاد الإسلامي»، يوسف الحساينة، إلى أن «المقاومة اليوم لديها كل الخيارات، حيث أنها تدرس الآن طريقة الرد على هذه الجرائم والوحشية والإرهاب الصهيوني المتنقل، وستعبر عن ذلك ربما خلال الساعات القادمة، وندعو إلى تسليح أهلنا في الضفة لمواجهة هذا الإرهاب والتطرف الصهيوني الذي بات يهدد كل الوجود الفلسطيني في الضفة و القدس والمقدسات».
أمام هذه الحالة، لم يجد رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، مناصاً من إبداء «تصعيدٍ ما»، حيث أكد، أمام وفد من حزب «ميرتس» الصهيوني، أنه إذا استمر الوضع على حاله «سيكون لنا موقفاً مختلفاً»(!!)، مطالباً الصهاينة بالاختيار ما بين «السلام والإرهاب»، كما «انتقد» موقف الإدارة الأمريكية والتزامها بالتنديد عبر إصدار بيانات فقط، قائلاً: «نحمل الإدارة الامريكية أيضاً المسؤولية، فعبارات نأسف ونعتذر وندين ونقدم التعازي، نأمل أن تتوقف، وأن يتم اتخاذ إجراءات ضد كل هؤلاء المتطرفين الإرهابيين».
وجاءت تلك التصريحات، موازية لتصعيدات فعلية على الأرض، حيث أصيب عدد من المستوطنين، من بينهم جنود، في عملية دهس قرب مستوطنة «شيلو» على الطريق الواصل بين نابلس ورام الله. وفيما أعلنت الهيئة القيادية العليا لأسرى «القسام» البدء في حل تنظيمها داخل كافة السجون، وتحميل الاحتلال مسؤولية إدارة شؤون وخدمات الأقسام، شرع الأمين العام لـ«الشعبية»، أحمد سعدات، مع أسرى الجبهة كافة، في إضراب مفتوح عن الطعام بدءاً من يوم الأحد.