الضرورات الأمريكية والعتب الخليجي

الضرورات الأمريكية والعتب الخليجي

«تخاذلٌ» تبديه الإدارة الأمريكية إزاء حلفائها وأدواتها في المنطقة، أم تراجعٌ يلزمها بإحكام براغماتيتها والتعامل وفق متغيرات المرحلة؟ يجد هذا السؤال طريقه إلى التداول بالتزامن مع «التجاذب» المستجد بين دول الخليج والولايات المتحدة الأمريكية على خلفية الأزمة اليمنية، وما سبقها من ملفات.

سياسياً وعسكرياً، تُراكم المشاريع الأمريكية خساراتها بنسبٍ متفاوتة، وعلى وجه الخصوص تلك المفتوحة في منطقتنا التي شكِّلت حتى الآن مركز ثقل مشروع التفتيت الأمريكي. من هذه الزاوية، لم يفضِ الحدث اليمني إلى نتائج ترضي السعودية (التي شكِّلت ميناءً لإعادة تصدير الإرهاب المصنَّع أمريكياً)، وهو ما أفضى خلال الأسبوع الماضي إلى حملات «اليأس الخليجي» من الولايات المتحدة.

حملت القمة الأمريكية- الخليجية الأخيرة في «كامب ديفيد» تظهيراً لحالة التجاذب بين الولايات المتحدة ودول «التعاون الخليجي». إذ جاء تخلُّف حكام السعودية والإمارات والبحرين عن حضور القمة ليظهِّر الخلاف أو عدم الرضا الخليجي- والسعودي خصوصاً- اتجاه الولايات المتحدة.

هل هو انسحاب أمريكي؟

تبدي وسائل الإعلام الممولة خليجياً يأسها مما تسميه «الانسحاب الأمريكي» من ملفات المنطقة. وتبني، على أساس ذلك، حديثها عن انكشاف ظهر الخليج، بعدما باتت الولايات المتحدة «أكثر ليناً» مع إيران. وتصل الطروحات الخليجية في تفسيراتها المبنية على أساس اللحظة حداً باتت تروج فيه لما تسميه انهيار «مبدأ إيزنهاور»، الذي كان يقضي بتحرك الولايات المتحدة للدفاع عن حلفائها في المنطقة حال دخولهم في/أو تعرضهم لهجومٍ عسكري، معلنةً عدم اكتفائها بالوعود الشفهية، ومطالبةً بالتزاماتٍ خطية من الولايات المتحدة. فيما تذهب تلك التحليلات أبعد من ذلك، لتؤكد أن سياسة الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، كانت «مترددة» في التعامل مع ملفات المنطقة منذ وصوله إلى الحكم.

يأتي هذا الحديث، عقب الفشل الذريع الذي أصيب به تحالف «عاصفة الحزم»، بقيادة السعودية، في تحقيق الأهداف التي طرحها بداية الأمر. لا «أنصار الله» جرى اجتثاثها عسكرياً، ولا عبد ربه منصور هادي عاد إلى الحكم. وحده طريق الحل الدبلوماسي المبني على أساس الحوار السياسي هو الطريق المفتوح حالياً في اليمن، وفي باقي دول المنطقة التي تشهد توتيراً عسكرياً.

عقلية المرحلة السابقة

كذلك، يكمن القصور في تلك التحليلات المستندة على فكرة «اليأس من الأمريكي الذي خذلنا»، في أنها تنظر إلى الولايات المتحدة من زاوية القادر على كل شيء، وتتعامل معها وفق مرحلة سابقة كانت تشكِّل في حينها القوة العظمى الوحيدة في العالم، دون إدراكٍ للمتغيرات التي أجهزت على الأحادية القطبية والواقع القديم، ورسخَّت تعددية دولية وضعت بدورها ضوابطاً تلقائية على حركة الولايات المتحدة، وأجبرتها على خلق هوامش للمناورة، تتراوح بين التدخلات العسكرية غير المباشرة، اعتماداً على قوات ومقدرات غيرها من الدول، وبين محاولات التحكم بمخرجات الحلول السياسية التي أُجبِرت على تبنيها.

من هنا، يتبين زيف المقولتين اللتين تخرجان من مواقع متناقضة شكلاً. الأولى: هي القول بالانسحاب الأمريكي المطلق من ملفات المنطقة، وهذا غير صحيح نظراً إلى أن الولايات المتحدة قد غيَّرت هوامش مناورتها وأدوات صراعها فقط، دون تغيير الاستراتيجية بعيدة المدى، حيث تسعى حالياً إلى التحكم بمخرجات العملية السياسية في منطقتنا، ونقل ثقلها العسكري إلى مناطق أخرى من العالم. أما الثانية: فتمثِّل الكلام الذي خرج في بداية التدخل العسكري في اليمن، ليقصر المسؤولية عن هذا التدخل على السعودية، أو في أفضل الأحوال سعى إلى تقديم السعودية على الولايات المتحدة من حيث المسؤولية،  فيما بدا واضحاً من ردود الفعل الخليجية حالياً، ومن حالة «الاستياء» التي أصابتها، أن الخليج قد تورط عملياً في تدخلٍ عسكري قررته، بطريقةٍ أو بأخرى، واشنطن، ودفع هو ذاته ثمنه الأكبر سياسياً واقتصادياً.