تونس: الانتخابات القادمة والبناء على الهاوية
حتى هذه اللحظة، لم تتجاوز نسبة التونسيين المسجلين للانتخابات التشريعية والرئاسية مائة ألف شخص. وكان من المتوقع أن تصل هذه النسبة إلى حدود المليون، علماً أن مواعيد إغلاق التسجيل ستكون يوم 22 تموز/يوليو الحالي. في حين أن الانتخابات التشريعية المزمع عقدها ستكون يوم 26 تشرين الأول، أما الرئاسية في 23 تشرين الثاني.
يشهد الشارع التونسي جدلاً واسعاً محوره دخول هذه الانتخابات والمشاركة فيها من عدمه، إذ يسود النقاشات السياسية الحالية موقفان متضادان، وتكاد تكون معظم الأصوات المتنافرة بعيدة كلّ البعد عن الشرائح الشعبية التي عبّرت عن لامبالاتها، كما تدلّ على ذلك نسب التسجيل الضعيفة.
مشاركة.. مقاطعة.. عدم إيمان
تنتصر إلى الموقف الأوّل الداعي إلى المشاركة معظم الأحزاب السياسية، يمينها ويسارها، ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والجمعيات، وهي نفسها الهيئات التي شاركت في انتخابات المجلس التأسيسي حيث كانت نتيجتها صعود حكومة الترويكا، وعلى رأسها الإسلاميون، الذين لم يتورّعوا إطلاقاً في صناعة طاغوت إرهابي، على المستوى السياسي والاقتصادي، حيث تم اغتيال كلّ من شكري بلعيد ومحمد البراهمي. كما تمّ التنكيل بانتظارات الشعب عبر الزيادة في الأسعار، وتضييق الخناق على المقدرة الشرائية للمواطنين.
أمّا الموقف الثاني، القائل بعدم المشاركة، فتنتصر إليه نخبة سياسية غير متنظمة حزبياً في أغلبها، وحجتها في ذلك أن نتيجة الانتخابات محسومة سلفاً، وأنها غير مستعدة لدخولها مع أحزاب بعضها يمثل النظام القديم- كحزب «نداء تونس»- وبعضها يمثل خطراً إرهابياً لا يجوز الحسم معه انتخابياً، بل عن طريق أشكال نضالية أخرى أكثر ثورية.
وأمام هذين الموقفين نشأ الموقف الثالث القائل بأن دخول الانتخابات من عدمه لن يغيّر شيئاً، وأن المعادلة لا تستقيم انتخابياً على الإطلاق، وهذا الموقف تمثله حركات لا سلطوية لها قراءة أخرى للواقع التونسي، ففي نظرها، لا بد من تفكيك النظام بأسره. والمقاطعة هنا رفض لشروط اللعبة وليس للعبة ذاتها، لذلك كان شعارهم «لا للانتخابات لأنها لا تحقق السيادة على القرار».
الناس والأحزاب المتنافسة: أزمة ثقة
يشهد الوضع الأمني منذ فترة تدهوراً كبيراً، وهو ما أفضى إلى وجود مخاوف متعددة من العمليات الإرهابية التي قد تكثر وتزداد باقتراب موعد الانتخابات، فهي وكما علّمت التجربة، سلاح قوي قد يغير مجرى اللعبة الانتخابية والسياسية بين الأطراف المتنافسة، وخاصة حركة «النهضة» المشهود لها بذلك، والراعية الأولى، بمباركة الرئيس الحالي، في إحداث أكثر من وكر لصناعة الإرهاب وتصديره إلى بلدان المنطقة، كما حدث مع التونسيين المقاتلين في سورية. بالإضافة إلى النظام القديم وهو قوة سياسية لا يستهان بها الآن، وتتمثل في حزب «نداء تونس» الذي يسعى بشكل أو بآخر إلى إعادة دولة البوليس، بينما تظل الجبهة الشعبية ذات المنحى اليساري قوة ثالثة، تدّعي أنها الأقرب إلى طموحات الشعب وانتظاراته، لكنها لم ترتق حتى الآن إلى طموحات الشارع التونسي الذي ينتظر توضيح التخوم بينها وبين باقي القوى السياسية.
هذا الأمر، لم يولّد غير خلخلة الثقة بين المواطنين والأحزاب المتنافسة، وهو ما يمكننا القول بأن نتيجة الانتخابات القادمة لن يحسمها الشعب، بل ستحسم بالمال السياسي، أو عبر اتفاقات مسبقة، أو ربما تتحكم فيها عمليات إرهابية قادمة، بمباركة الإعلام وبعض عصابات المخابرات والمافيا التي تعمل لأجندات أجنبية.
لكن تجدر الإشارة إلى أن كلّ ما يجري الآن هو خارج عن الإرادة الشعبية، وخارج معادلة واتجاه المسار الثوري الذي خلقته الجماهير والحشود، فالوضع الاجتماعي يزداد احتقاناً والتناقضات تشهد حدة أكثر مما كانت عليه سابقاً. أما أمنياً فالمخاوف تكاد تكون حقيقة، وما من شيء أصحّ في وصفنا لهذه الانتخابات المقبلة إلا منطق البناء على الهاوية، أي أن ما سيحدث في الأيام المقبلة قد يمثل طعنة قاتلة للانتفاضة التونسية، والحسم مع مساراتها بشكل جذري.