ما الذي تريده النخب الغربية؟
يشكل هذا العنوان السؤال المحوري في برنامج «بانوراما» الذي يعرض على قناة «روسيا اليوم»... ويتابع مقدم البرنامج تساؤلاته:
هل هم محقون أولئك الذين يقولون بأن النخبة العالمية السياسية والمالية تخوض حرباً لا هوادة فيها ضد التعددية الحقيقية للأقطاب وتريد إحكام السيطرة العسكرية والسياسية على الثروات المعدنية الهامة لصالح النادي الغربي حصراً ؟أم أن هذه النخب تعاني اليوم من حالة الارتباك والحيرة وهاجس فقدانها زمام المبادرة؟ ما الخطوات المرتقبة من جانب النخب الغربية على سكة إعادة رسم خارطة العالم؟
ربما ظل الجواب عصياً على الشرح النظري المطول، حيث ظلت أستاذة العلاقات الدولية، اولغا تشيتفركوفا، من أنصار الفكرة القائلة: بأن الغرب يمارس هجوماً شرساً على كل البقاع الدسمة في العالم، محاولاً إعادة بناء فضاء سياسي جديد يعبر عن مصالح واحتكارات «وول ستريت» الجديدة، الناشئة على أرضية الأزمة الاقتصادية المستعرة.. بينما ظل الباحث الآخر، ديفيد روكفيلد، بعيداً عن هذا التصور ليرى إن تأثير نادي بيلربرغ- الممثل العقائدي والنظري الخفي للقوى المالية العالمية- هو فكري ومعنوي أكثر منه عبر التدخل المباشر...!!
تبقى كل الروايات خاضعة لترجيحات الواقع الذي يجيب أن ما تريده النخب الغربية هو الهيمنة المطلقة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وعند الضرورة عسكرياً...
في ليبيا التي أدماها القذافي ليشكل ذريعة الدخول الغربي على أرضية حماية حقوق الشعب في الانعتاق من جنون حاكمه، نتابع درساً عملياً لفعل الهيمنة المناسبة لظروف هذا البلد.. ربما يظل المشهد الطاغي على الرؤيا هو المشهد العسكري الذي يتراوح بين اللاحسم، ومسعى بعض القوى في حلف الأطلسي لزيادة تمثيلها العسكري في الأراضي الليبية، لا حباً بالمدنيين، كما قال قرار الغزو الدولي 1973، بل رغبة بزيادة الحصيلة من الكعكة المقدسة.
لايزال الناتو ينفي نياته دخول البر الليبي بينما توحي أفعاله بغير ذلك (لايزال الروس يتوجسون من مساعي بريطانيا وفرنسا الرامية إلى إرسال حوامات إلى داخل الأراضي الليبية رغم كل التطمينات التي قدموها أمام المندوب الروسي في الحلف).
تنظر النخب الغربية مؤخراً وفقاً لتكتيك جديد في التقاسم، يوحي بصراع معين دار في وقت سابق خلف الكواليس. فالتعمق في خلفيات المشهد الليبي، بعيداً عن الوقائع العسكرية المريبة، يحتاج نظرة متمعنة في المصالح الدافعة للتحرك الغربي المشبوه.
تعتبر ليبيا كنزاً نفطياً مغرياً، ظل القذافي وشركاؤه يتحكمون فيه خلال السنوات الأربعين الماضية. فلا حياة في ليبيا دون البترول الذي يشكل 30% من الناتج المحلي و95% من إجمالي الصادرات الموزعة بين الشركاء التجاريين التقليدين على الشكل التالي: (38% ايطاليا، 13.4% اسبانيا، 13.4% ألمانيا، 7.1% تركيا)..
كان ذلك هو الفضاء التجاري- السياسي الذي يهرج فيه القذافي على حساب تطوير بلاده. ويبدو اليوم أنه لم يعد ممكناً الاستمرار بهذا التقاسم، وخاصة بعد الأزمات التي عصفت بالاقتصادات الكبرى والتي هددت، ولا تزال، كل الدول المعنية، وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا.
كان هذا عملياً هو سبب الخلاف بين تركيا وألمانيا من جهة، وبقية قوى الغرب من جهة أخرى. ربما تم التوافق مؤخراً على ضمان حصص كبيرة لأسود الناتو (فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا) وهي الدول الأكثر تأزما في داخلها، فعليها استباق انفجار اجتماعي قريب بفتح بترولي جديد...!
لم تمانع ألمانيا كثيراً القرار الدولي رغم كل تحفظاتها عليه، وربما يفسر ذلك بالقوة الاقتصادية الحالية التي تتمتع بها. لكن على الأغلب أن ما تم المساس به هو حصة الأتراك الذين عارضوا الغزو بشدة، كما تمت التضحية بحصة أسبانيا ربما، حيث يلاحظ اشتداد أزمتها الداخلية وتكرار خروج مظاهرات الاحتجاج العمالية والمطلبية في شوارعها. أما ايطاليا وهي صاحبة الحصة الأكبر تقليدياً، فعلى الأرجح أن لا مشكلة لها في المساومة على بعض من حصتها مقابل ضمان الباقي..
كان ذلك خلف الكواليس ربما!! لكن الثابت هو ما نسمعه ونشاهده اليوم، حول قيام المجلس الانتقالي الليبي بعقد صفقات البترول ليتم دورة حياته وحياة من ورائه. فقد كشف مصدر رسمي ايطالي وفقا لبعض وسائل الإعلام أن المجلس الوطني الانتقالي الليبي يجري مفاوضات مع شركة «ايني» الايطالية وشركات نفط عالمية أخرى لإنشاء مؤسسة نفط ليبية جديدة كبديل عن مؤسسة النفط «القذافية»، وتشمل المباحثات عملية فسخ العقود السابقة الموقعة مع المؤسسة الرسمية. كما ذكرت صحيفة «كورييري ديلا سيرا» الإيطالية قبل أسبوعين أن «إيني» ستلتقي «أوني كريدت» والمعارضة الليبية في الأيام المقبلة لدراسة خطة لإنشاء «شركة وطنية» نفطية بليبيا يتم تمويلها بواسطة صندوق ائتماني يديره مجلس أمناء من الليبيين تعينهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي.
إذاً لم يعد الجواب على تساؤل البرنامج التلفزيوني مغرياً، بل إن التفكير به فقط، يعد أمراً استفزازياً. ففي بلد مثل ليبيا يعتمد كلياً على ثروة طبيعية لن تقوم قائمة لأي نهضة فيه ما لم تبنى على استثمار وطني مستقل لثروتها النفطية. استثمار لا يهرب من جيب القذافي الذي ضاق على نهبه، فوسعته جيوب أسياده.
اليوم يصادر حق الحياة لكل الليبيين بعدما انتقل المسلسل إلى حلقاته المتقدمة، فهرَّج القذافي وصفَّق الغرب له، وقَتَلَ وهم ينظرون، وعربد فاستباحوا البلاد ليرضوا تقاسماتهم الجديدة..