مركبات «الحل السياسي» السوري.. إقليمياً ودوليا

مركبات «الحل السياسي» السوري.. إقليمياً ودوليا

في الوقت الذي تثار فيه أسئلة جدية في الغرب حول إمكانية استمرار النظام الرأسمالي في ظل أزمته المستعصية وعدم قدرته بالمحصلة الملموسة على إعادة انتاج الحلول الاستهلاكية السابقة لمواطنيه المحتقنين تمهيداً لانتفاضات عارمة.

وفي الوقت الذي تنشغل فيه عواصم الغرب والشرق ببحث تثبيت مواطئ قدم لها في الترتيبات العالمية الجديدة الآخذة بالتشكل على خلفية الأزمة عينها، تقف الأزمة السورية المستعصية هي الأخرى أمام مفترق طرق أولي، إما باتجاه التمهيد لحل سياسي جدي وحقيقي وشامل يعيد إنتاج الدولة السورية باتجاه دور أكثر ذكاءً وعدالة تجاه السواد الأعظم من السوريين ويفكك بنى الفساد الكبير ويحافظ على الوحدة الجغرافية والسكانية والمجتمعية للوطن السوري، أو باتجاه تأخير ذلك بفاتورة دموية مستمرة من الصراعات المسلحة التي أثبتت عقمها على امتداد الأشهر الطويلة الماضية، وسط تأكيد غالبية الأطراف- لفظياً على الأقل- على ضرورة أن يكون الحل سورياً - سورياً...

غير أن المفارقة خلف هذه التأكيدات اللفظية تكمن في أن غالبية الأطراف ذاتها إما لا تعي، أو لا تريد أن تعي، أو تعي وتريد أن توظف لمصالحها الضيقة أو المباشرة، فهم والتقاط طبيعة اللحظة الناشئة في ميزان القوى الدولي قيد التشكل في العالم، وربما البارز بوضوح في مسار الأزمة السورية والمتمثل اليوم في انخفاض الوزن النوعي لواشنطن عالمياً مقابل الارتفاع التدريجي لوزن موسكو ومحور «البريكس»، بما يعني استعداد الأمريكيين للقبول بتسوية سياسية تحتفظ لهم، خلال السعي لها، بأهدافهم مع تغييرهم لأدواتهم، على اعتبار أن ما يمكن أن يحصّلوه اليوم قد يكون أفضل مما قد يحصّلونه غداً.

ويبدو أنه في هذا الإطار يندرج الموقف الملتبس للمبعوث العربي والدولي إلى سورية الأخضر الإبراهيمي من المبادرة السياسية التي أطلقها النظام في سورية عبر الرئيس بشار الأسد مؤخراً، ليُظهر، أي الإبراهيمي، أنه لا يمثل توافقاً دولياً، روسياً- أمريكياً، بمقدار ما يمثل مندوباً لواشنطن والجامعة العربية في هذا الصراع الدولي، لتكون النتيجة في هذا المحور أنه على السوريين فيما يبدو انتظار مرحلة أخرى من النزاع وتداعياته، ووسيط آخر، وحتى ربما نتائج القمة الروسية- الأمريكية المرتقبة.

اللافت مجدداً أنه سرعان ما انقسم طيف المتلقين لمبادرة النظام بين مهلل بالمطلق أو رافض بالمطلق في الوقت الذي تشكل فيه هذه المبادرة عملياً مجموعة عناوين مطلوبة بغض النظر عن ترتيبها وتسميات بنودها لتشكل بمجملها مفردات للمصالحة وممهدات للتغيير والخروج «الآمن» من الأزمة دون أن يعني ذلك انتهاء الأخيرة «بكبسة زر»، كون أية «مرحلة انتقالية» تحتاج إلى جدولة زمنية– كي لا تكون بالفراغ- وإلى آليات مقترحة لمراقبة أي استفتاء شعبي منتظر.

في بحث بعض أسباب الطرفين الوهميين للصراع (نظام– معارضة) قد يجد المرء أن مرد تشدد بعض قوى النظام يكمن في توهمها إمكانية العودة للوراء في شكل الحكم وآلياته بما فيها بالدرجة الأولى اعتماد «الحديد والنار» لإعادة تموضع وتثبيت مافيات الفساد الكبرى والوسيطة المتوسطة، بتجلياتها الأمنية والسياسية والاقتصادية- الاجتماعية.

بدورها غالبية معارضة «الخارج» الباقية كأدوات أمريكية أوربية تريد من تشددها تحسين «موقعها التفاوضي» وهي تتحسس الموقع الحرج لداعمها الأمريكي، على اعتبار أنها من خلال ترداد مقولة «لا حوار حتى تنحي الرئيس أو رحيل النظام» تصر على فهم المسألة على أنها «استلام وتسليم» مستعينة بالدبابة السياسية الأمريكية بعد ثبوت استحالة العسكرية منها، من دون أن تجيب عن السؤال البديهي: إذا كان الشرط كذلك فمع من سيجري حوارهم ومن أجل ماذا؟؟!!، وهل النظام مجموعة حقائب يجري حزمها والسلام..!

أما بعض معارضة الداخل فيبدو أن مرد تشددها الرافض يتمثل في مواجهة تشدد النظام، من جهة، ومن جهة ثانية استمرار وقوعها تحت تأثير قوة عطالة عطب رؤيتها التاريخي في توهم إبصار وانتظار الضوء الأخضر الأمريكي، أي رؤية العامل الأمريكي فقط في تحول ميزان القوى الدولي والمراهنة عليه دون رؤية ميله العام اليوم.

في نهاية المطاف، ووسط مكابرة غالبية الأطراف المتصارعة بالسلاح ومعها المؤثرة بالأزمة السورية على حساب الدم السوري، وعلى حساب استمرار شح خبز ومصادر دفء المواطنين السوريين، وتشرد أعداد كبيرة منهم، يبقى البدء بحل الأزمة سياسياً وإنضاج هذا الحل تباعاً هو الكفيل ببدء الانحسار التدريجي لمنسوب العنف والدم في سورية، وإحداث التغيير الجذري والشامل والتدريجي المطلوب المنسجم مع تضحيات أبناء الشعب السوري قاطبة بمن فيهم الجيش العربي السوري الذي أقحم في غير معركته الأساسية.

وبين موجبات التغيير لمصلحة الشعوب العربية تحت يافطة ما يسمى بـ«الربيع العربي» (بساحاته التونسية والمصرية والليبية واليمنية والبحرينية والسورية والعراقية مؤخراً) ولكن في ظل الأزمة الأمريكية، أي إعادة بناء النظام العالمي، والإقليمي بالتالي، وبين أدوات الفوضى الأمريكية في السياق ذاته ولكن من المنظور الأمريكي، فإن ثلاث ساحات قد تكون كفيلة بإحداث النقلة الأهم في الانقلاب الدولي المنشود: خروج سورية من أزمتها تدريجياً وبأكبر قدر من المعافاة، وإنجاز المرحلة الثانية من الانتفاضة الشعبية المصرية، والتثمير السياسي لـ«توازن الرعب» الجديد في غزة لمصلحة أساسيات القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني.