نهاية الحرب الباردة واستراتيجية النظام الدولي الجديد
مع نهاية الحرب الباردة كان لابد من وضع استراتيجية جديدة لإدارة النظام العالمي. وبرزت مع انهيار الاتحاد السوفييتي إلى المقدمة إعلانات عن «نظام عالمي جديد» محور تركيزها الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم. وطرح هذا الأمر عدداً كبيرا من التحديات الكبرى، مثلما طرح فرصة هيمنة أعظم على العالم أيضاً.
مع انهيار الاتحاد السوفييتي تشكلت عدة أمم في آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية وأصبحت مستقلة. وترافق مع هذا أن أصبحت ثرواتها الطبيعية الهائلة من غاز ومصادر طاقة أخرى جاهزة للاستغلال. أفغانستان ذاتها كانت تعد «محوراً استراتيجياً كبيراً» لكونها «البوابة الرئيسية إلى آسيا الوسطى وما تختزنه أراضيها من مصادر طاقة» .
وبدأت شركات النفط الغربية أمثال اكسون موبل، وتكساكو، وآنوكال، وبرتش بترليوم- آموكو، وشل، وإنرون، بصب بلايين الدولارات في بلدان آسيا الوسطى مع مطلع تسعينيات القرن العشرين(2).
في العام 1992 تسربت إلى الصحافة وثيقة من وثائق وزارة الحرب الأمريكية (البنتاغون) عنوانها «مرشد للتخطيط الدفاعي» . تصف هذه الوثيقة ما يجب أن تكون عليه استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في «النظام العالمي الجديد» . كان واضعها هو ««ديك تشيني» وزير دفاع جورج هـ. دبليو. بوش، وتنص هذه الوثيقة على «أن رسالة أمريكا السياسية والعسكرية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة ستكون ضمان عدم السماح بظهور قوة عظمى منافسة في أوروبا الغربية أو آسيا أو في أراضي الاتحاد السوفييتي السابق» . وتصف الوثيقة التي يحظر نشرها «وضعية عالم تهيمن عليه قوة عظمى وحيدة يمكن أن يتعزز موقعها ويدوم بسلوك بنّاء وقدرة عسكرية كافية لردع أية أمة أو جماعة من الأمم ومنعها من تحدي اليد الأمريكية العليا» .
أكثر من ذلك، تضع المسودة الجديدة مخططاً لعالم توجد فيه قوة عسكرية واحدة مهيمنة «يجب أن يحتفظ قادتها بآليات تردع حتى طموح المنافسين المحتملين إلى دور إقليمي أو دولي أوسع» . وتفترض الوثيقة، من بين ما تفترضه من تحديات ضرورية للسطوة الأمريكية، « حروباً إقليمية تشن ضد العراق وكوريا الشمالية » ، وتعرّف الصين وروسيا بوصفهما أكبر تهديد لهذه السطوة، وتقترح إضافة إلى هذا إمكانية أن تأخذ الولايات المتحدة في اعتبارها توسيع مدى التزامها بأمن أمم أوروبا الشرقية ووسطها يماثل تلك الالتزامات بأمن العربية السعودية والكويت والدول العربية الأخرى على ساحل الخليج .
وعلى النحو نفسه، أنشأ «وقف كارنيجي للسلام الدولي» ، وهو واحد من أكثر مراكز الأبحاث نفوذاً في الولايات المتحدة، لجنة في العام 1992 لتحديد سياسة خارجية جديدة للولايات المتحدة في أعقاب الحرب الباردة. وكان من بين أعضاء هذه اللجنة، مادلين اولبرايت، وهنري سيسيزوس، وجون دويتش، ورتشارد هولبروك، وآليس رفلن، وديفيد جيرجن، والأدميرال وليم كراو.
نشر تقرير هذه اللجنة النهائي في صيف العام 1992 تحت عنوان «تغيير طرائقنا: أمريكا والعالم الجديد» ، وحث على اعتماد «مبدأ جديد في العلاقات الدولية؛ مبدأ أن تدمير وإبعاد جماعات بشرية في دولة من الدول يمكن أن يبرّر التدخل الدولي» . واقترح التقرير على الولايات المتحدة أن تتعامل مع المشاكل الأمنية الجديدة في اوروبا بوساطة ذراعيها، حلف الناتو ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وحث على «التدخل تحت أقنعة إنسانية» .
وتبعاً لذلك، هذا التقرير هو الذي «زرع بذور حرب كوسوفو» حيث «وفر أسباب التدخل الأمريكي والتوصية السياسية حول أفضل الوسائل (حلف الناتو) لشن تلك الحرب» .
وفي السنة نفسها، وسع تقرير آخر لوقف كارنيجي، عنوانه «تقرير المصير في النظام العالمي الجديد» ، أهداف أمريكا الاستعمارية بأن وضع «معياراً بيد المسؤولين يستخدمونه في تقرير متى يدعمون الجماعات العرقية الانفصالية الساعية إلى الاستقلال، وفي الدفاع عن استخدام القوة العسكرية لهذا الغرض» ، وأوصى بأن «الأحلاف العسكرية، ويفضل أن تكون بقيادة الأمم المتحدة، يمكنها إرسال قوة مسلحة، ليس كقوات حفظ سلام، بل كقوات تصنع السلام، لمنع انفجار النزاع وحصره في مكانه بلا حدود» . ونص التقرير أيضاً على «أن استخدام القوة العسكرية لخلق دولة جديدة سيتطلب سلوكاً بالغ الفظاعة من الدولة المستهدفة بالتدخل بحيث تفقد أي حق في حكم الأقلية المطالبة بتقرير المصير»
وسرعان ما شرعت الولايات المتحدة، وحلفاؤها في حلف الناتو، بتنفيذ إستراتيجية جديدة، ساعين إلى الحفاظ على الهيمنة على العالم، فوسعوا سيطرتهم على مناطق كانت سابقا تحت نفوذ الاتحاد السوفييتي (مثل تلك التي في شرقي أوروبا وآسيا الوسطى)، ومنعوا بروز روسيا أو صين نشطة، وكانت إحدى الواجهات الأساسية لهذه الاستراتيجية فكرة «التدخل الإنساني» .
إستراتيجية الهيمنة
العالمية في قرن جديد
في أعقاب وضع الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو لأهدافهما الاستراتيجية من أجل توسيع هيمنتهما على العالم في أوائل تسعينيات القرن العشرين، ومن أجل منع بروز منافسين (روسيا والصين)، وتوسيع منافذ المصالح الغربية الاقتصادية باتجاه بحر قزوين، رُسمت مخططاتٌ جديدة في أوساط أقوى مراكز الأبحاث نفوذا في الولايات المتحدة، كما وضع خطوطها العريضة العسكريون الاستراتيجيون من ذوي النفوذ. ووسعت الاستراتيجية المجددة مجرد توسيع مدى الاستراتيجية المعتمدة، ولم تختلف من حيث الهدف المصمم سابقاً، أي تطويق واحتواء روسيا والصين.
وأطلق أحد الأطراف، المحافظون الجدد، هدف التوسع عسكرياً في الشرق الأوسط، بداية من العراق، بينما وضع الصقور الواقعيون، أصحاب الخط المتصلب الراسخ من أمثال زبغنيو بريزنسكي، خطوط استراتيجية أكثر شمولا وأطول من حيث المدى الزمني للهيمنة العالمية تبدأ بالسيطرة كلياً على أوراسيا ( أوروبا وآسيا)، ولاحقاً على أفريقيا.
وشكل صقور المحافظين الجدد في مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية مركز أبحاث حمل اسم «مشروع من أجل القرن الأمريكي الجديد» (PNAC) في تسعينيات القرن العشرين. ونشروا تقريرهم في العام 2000 تحت عنوان «إعادة بناء دفاعات أمريكا» الذي وضعوا فيه خطوط استراتيجية للولايات المتحدة في «القرن الجديد» . وعلى آثار منطلقات وثيقة «مرشد للتخطيط الدفاعي» (خلال حكومة بوش الأولى)، نص التقرير على أنه «يجب أن تحافظ الولايات المتحدة الأمريكية على قوى كافية قادرة على الانتشار السريع والانتصار في عدة حروب متزامنة على نطاق واسع»، وهناك حاجة «للحفاظ على قوات معارك كافية للقتال والانتصار في مسرح عمليات حروب متعددة ومتزامنة تقريباً» وخلال ذلك «سيكون على البنتاغون (وزارة الحرب الأمريكية)، وبشكل مستقل، احتساب القوة الضرورية لحماية مصالح الولايات المتحدة في أوروبا وشرق آسيا والخليج دائماً».
وأوصى التقرير «بإجراء تغيير» في نظام صدام حسين في العراق بوصفه «المبرر المباشر «للحضور الأمريكي في الخليج» ، ولكن «الحاجة إلى حضور قوة أمريكية في الخليج تعلو على قضية نظام صدام حسين» .
ونص التقرير، دفاعاً عن زيادة كبرى في نفقات الدفاع (الحرب)، ورسم خطوط العمليات العسكرية ضد العراق وكوريا الشمالية وربما إيران، على أن «عملية التحول، حتى لو جلبت تغييراً ثورياً، فهناك بالإضافة إلى هذا، احتمال أن تكون هذه العملية طويلة في ظل غياب حدث كارثي وضخم مثل بيرل هاربر جديد».
زبغنيو بريزنسكي وضع من جانبه الخطوط العريضة لإستراتيجية أمريكية طويلة الأمد للسيطرة على أوراسيا في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» ، وكتب بفظاظة «إن من الملحّ عدم ظهور أي متحدٍ أوراسي قادر على الهيمنة على أوراسيا، فضلا عن أن يتحدى أمريكا أيضاً»، ثم شرح بجلاء طبيعة إستراتيجيته الاستعمارية:
«لوضعها في مفردات لغة تعود بنا إلى عصر أكثر وحشية من عصور الإمبراطوريات القديمة، فإن القواعد الأساسية الثلاث الكبرى لإستراتيجية الجغرافية/السياسية الإمبريالية هي، منع ظهور تحالف بين التابعين والحفاظ على اعتمادهم الأمني علينا، وإبقاء دافعي الجزية مطواعين ومحميين، وإبقاء البرابرة بعيدين عن إمكانية التجمع معاً».
وأفاض في شرح أن أمم آسيا الوسطى ( شعوب البلقان الأوراسي كما يشير إليها):
«ذات أهمية، من وجهة نظر أمنية ومطامح تاريخية، بالنسبة لثلاثة على الأقل من جيرانهم الأقرب إليهم والأكثر قوة، أعني روسيا وتركيا وإيران، والصين أيضاً التي تصدر إشارات على تزايد مصالحها السياسية في المنطقة. ولكن شعوب بلقان أوراسيا اكثر أهمية بشكل لا حدود له بوصفها جائزة اقتصادية محتملة؛ هناك تركز هائل لمصادر الغاز الطبيعي واحتياطيات النفط يقع في المنطقة، بالإضافة إلى معادن مهمة، بما في ذلك الذهب»
ويشدد بريزنسكي على أن «مصلحة أمريكا الرئيسية هي المساعدة على ضمان أن لا تنفرد قوة واحدة بالسيطرة على هذا الفضاء الجغرافي/السياسي، وأن يظل هذا الفضاء مفتوحاً في متناول المجتمع العالمي، اقتصاداً وتمويلا بلا عائق».