سيدي بوزيد ..خبز و ماء والنهضة لا
غيث خوري غيث خوري

سيدي بوزيد ..خبز و ماء والنهضة لا

أراد البعض أن يضيع ثورة تونس في سراديب الحديث المبتذل عن (الديمقراطية)  والبحث عن نماذج الحكم المتقدمة. لم يكل عزمي بشارة مثلاً وغيره من الناطقين الإعلاميين باسم الثورات العربية عن التبشير بنموذج الحكم التونسي فيما بعد الثورة والقائم على وعي وتسامح من حركة النهضة واليساري العتيد المنصف المرزقي وليبراليين آخرين، أراد البعض أن يكرس هذا النموذج كأيقونة عن نماذج الحكم القادمة التي تلتقي فيها كل الأطياف السياسية (إسلامي – ليبرالي – يساري)على أنقاض الجوع ، تبدو هذه الصورة مبتذلة كما كل الصور الهزيلة التي يقدمها قادة الغرب وبعض دول الخليج والأنظمة المستبدة عندما يرعون حواراً ما للأديان ليخرجوا علينا بصورة تجمع القادة مع زعماء الطوائف في تكريس ساذج وأبله للوحدة الوطنية وحوار الحضارات..

اعتبر هؤلاء أن ثورة تونس هي ثورة كرامة وفقط وتناسوا عن قصد أو غير قصد أنها أساساً ثورة خبز و كرامة وهما متلازمتان لاتنفصلان في ثورات القرن الواحد والعشرين، على مايبدو أن المطلوب وفقاً لرغبة هؤلاء المنظرين هو المحافظة على النظام وتغيير بعض رموزه المتهمين بالاستبداد وفقط ، القليلون حينها تذكروا مثلاً قضية عمالة بن علي للكيان الصهيوني وقليلون جداً من تحدثوا عن نظام النهب الذي أرساه صندوق النقد الدولي في تونس منذ عقود برعاية الولايات المتحدة.   

لم يفهم الحكام الجدد في تونس على مايبدو ماعنته رمزية البوعزيزي كأحدى أيقونات الثورة ورمزية مدينة المهمشين سيدي بوزيد الثائرة. المدينة التي ثارت على الفقر والتهميش والبطالة لم تخرج لأجل أن تعطي حركة النهضة وحلفاءها تفويضاً بالحديث حول نظام الاستبداد في عهد بن علي والصمت عن أوجاعهم الأخرى، هذه الأوجاع التي تفاقمت تباعاً بعد أكثر من عام ونصف على اندلاع الثورة. هكذا تناست الحكومة الجديدة واقع البطالة التي شكلت كلمة السر المفقودة والتي زادت من 700الف عاطل عن العمل عشية الثورة إلى مليون عاطل عن العمل في آب 2012  حيث وصل عدد حملة الشهادة الجامعية العليا إلى  315 ألف منهم يضاف إلى ذلك معدل الفقر الذي شمل 25% من سكان البلاد وهم الذين شكلوا تاريخيا خزان الإحتقان الذي لم يهدأ حتى بعد الإطاحة ببن علي ومجيء حكومة النهضة .

اجتاحت الاحتجاجات والمظاهرات مدينة سيدي بوزيد مجدداً  مكثفة الصورة عن الواقع الذي لم يتغير، فعقلية تكريس الولاءات السياسية التي تنتهجها حكومة النهضة تكرست بشكل واضح فوفقاً لحديث سالم العياري المنسق الوطني للاتحاد العام للشغل قامت الحكومة بإلغاء توظيف 300 عاطل عن العمل كانوا قد نجحوا في مسابقة التوظيف واستبدالهم بقوائم أخرى تابعة لحركة النهضة. ووجه المتظاهرون بالرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع وأصيب أكثر من 20 شخصاً من المتظاهرين بعد مظاهرات سلمية هتفوا فيها ( خبز وماء النهضة لا، الشوارع والصدام حتى يسقط النظام، شغل وحرية كرامة وطنية) كما تم اعتقال عدد من المتظاهرين وصل عددهم إلى40 معتقلاً في سيدي بوزيد وحدها ومنهم نقابيون تعرضوا للتعذيب  مما أعاد التشكيك بالخطاب الحكومي حول رواياتها عن التزامات جدية بحقوق الانسان وتحدث الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، بلقاسم العياري، أنه تم تعذيب النقابيين الموقوفين في أحداث مستشفى الهادي شاكر بصفاقس، وبرهانه على ذلك رفض قاضي التحقيق لطبيب كلفه اتحاد الشغل بمعاينة الموقوفين.

دفعت هذه السلوكيات إلى إعلان بعض القوى السياسية عن تشكيل جبهة شعبية معارضة  كان من أبرز قواها حزب العمال وحركة البعث وحركة الوطنيون الديمقراطيون وحزب الطليعة العربي الديمقراطي وجاء في بيانها الأول « الخيار الرّئيسي للطّريق الذي وجب سلكه، والأسلم لما يتضمّنه من برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، يسعى لتحقيق أهداف الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعيّة والديمقراطيّة في شكلها الشّعبي وليست الديمقراطيّة الليبرالية التي لا تخدم غير البرجوازية ورجال الأعمال والمتنفّذين مالا وجاها» . جاء هذا الرد بعد أن اتسعت دائرة الاستياء من حكومة النهضة واستراتيجيتها التي مافتئت تكرر ممارسات بن علي ذاتها وفي كل المناحي وخاصة على الصعيد الاقتصادي حيث كرست الحكومة ارتهان تونس للخارج عبر اقتراضها في الآونة الأخيرة قرضاً بقيمة 500 مليون دولار بضمانات من الولايات المتحدة الأميركية قالت عنها الولايات المتحدة إنها تصب في مجال تعزيز الديمقراطية في تونس؟!!

شكل الإضراب العام والاعتصامات في 14 آب الثلاثاء  والتي دعا إليها اتحاد الشغل مواجهة مفتوحة مع حكومة النهضة و رداً قوياً على عمليات الاعتقال، حيث استجابت له حوالي 80% من المرافق العامة في سيدي بوزيد يضاف إليها مجموعة من المظاهرات في صفاقس، بينما ردت حكومة النهضة  بإجراءات قمعية مستعيدة بذلك  السلوك الخطاب ذاتهمااللذين تبنّتهما معظم الأنظمة الساقطة وكان رد الغنوشي زعيم حركة النهضة بائساً عندما تحدث « عن اضرابات بالقوة يقوم بفرضها بعض القوى»، وتحدث وزير الخارجية رفيق عبد السلام (من حركة النهضة) قائلا « إن مجموعة من اليساريين والفوضويين المتعصبين وفلول النظام البائد تقف وراء الأحداث»،  كما رد المتحدث باسم الحكومة سمير ديلو أن هذا الاضراب      « لامبرر له» في حين اعترف بواقع سيدي بوزيد المتهاوي حيث كانت المدينة تعيش بلا مياه للشرب وقال «التحركات التي تشهدها بعض جهات البلاد يمكن تفهمها نظراً إلى ظروف المعيشة الصعبة... لكن لا أظن أن هناك ما يبرر إضراباً عاماً»»   لكنه عاد ليتهم القوى السياسية التي دعت للإضراب بأنها قوى الثورة المضادة مستهجنا حديث بعض القيادات السياسية عن ضرورة تصحيح مسار الثورة!!.

 هكذا طوت سيدي بوزيد موطن الثورة وبلد الشهيد البوعزيزي بعضا من أيامها الثورية الجديدة والتي تشير معظم التوقعات إلى أنها ستستمر، ففي ظل معادلة التغيير التي لاتكترث لقضايا المهمشين والفقراء فإن النظام البائد قادر على إعادة إنتاج ذاته مرة أخرى ولربما كان الحديث عن سقوطه متسرعاً جداً..