بعد الانفجار الثوري.. هل تسير مصر صوب الانهيار؟
تفريغ الثورة من أي طابع طبقي أو وطني هو هدف الطبقة المهيمنة في مصر، سواء أولئك الذين كانوا ينفردون بالسلطة أو من كانوا ينافسونهم من أجل مشاركتهم في الكعكة وينتمون إلى الطبقة نفسها. أما باقي النخبة من ذوي الأصول اليسارية أو القومية أو الوطنية الديمقراطية فلا يزالون عند مواقفهم ومواقعهم السابقة، أي الاكتفاء بمجرد تحسين وجودهم داخل نظام الطبقة الرأسمالية المتوحشة اللصوصية. وبالتالي فإن غالبية النخبة الطبقية– السياسية تكرس النظام القديم. وذلك باستثناء قسم صغير يناضل من أجل تغيير جذري وتحقيق أهداف الثورة.
لا تكترث نخبة التكيف التي قامت بعملية سطو على الثورة بأن أكثر من نصف الشعب المصري يعيشون تحت خط الفقر. إذ يتفاخر نائب رئيس وزراء حكومة الثورة المضادة بأن الدين العام قد وصل إلى تريليون جنيه مصري فقط! وأن العجز في ميزان المدفوعات وفي الموازنة العامة قد وصل إلى مستوى غير مسبوق. ومع ذلك يصر على استمرار نظام الاقتصاد الحر الذي جلب الويلات للوطن وللشعب.
كما يحاول هؤلاء الليبراليون الجدد اقناع الناس كذباً بأن الثورة هى المسؤولة عن التردي في أحوال الناس المعيشية بسبب تراجع السياحة وانخفاض الاستثمارات الأجنبية، وكأن الشعب كان يعيش على السياحة، أو أن الاستثمارات الأجنبية كانت تضيف إلى الأصول ولا تخربها، أو أنها في معظمها كانت تتجاوز مجرد المجيء إلى البورصة لحصد الأرباح ثم البيع والخروج بأموالهم وأرباحهم!
سياسات الحكومة منحازة بكليتها للأغنياء الذين يزدادون غنى برغم الأزمة الخانقة، بينما يزداد الفقراء فقراً. وفي ظل الاقتصاد الحر ينهش التجار والمستوردون وكل الطبقة النهابة ما تبقى من لحم الشعب. بينما يتم دعم المصدرين بمليارات الدولارات، ولا أحد يعرف ما إذا كانت حصيلة التصدير تعود إلى الوطن أم لا.
إن مستوى النهب يزداد، والفساد يستشري أكثر من ذي قبل، لأنه ليس مجرد منتوج جانبي للرأسمالية التابعة، ولكنه أساسها الذي قامت عليه. ولا تهتم الغالبية الساحقة من النخبة السياسية (نخبة التكيف) بهذه الأوضاع الاقتصادية– الاجتماعية. ولا بالأوضاع الوطنية أو المخاطر التي تحيط بنا وبالإقليم.. فقط يرون أن أي تغيير في التوجه الاقتصادي– الاجتماعي أو الوطني وما يتبع ذلك من ديمقراطية ذات طبيعة شعبية، إنما يحمل أخطاراً شديدة لا قبل لنا بها. إذ ستطالنا العقوبات الدولية والحصار الاقتصادي وتتوقف المنح والاعانات والقروض والاستثمارات. رغم أن استرداد ما تم نهبه من هذه الطبقة اللصوصية، ووقف الفساد ونزيف النهب كفيل بحماية الوطن من الأخطار، وتحقيق تنمية شاملة ومستقلة معتمدة أساساً على الذات وحماية الاستقلال الوطني والأمن القومي للبلاد.
قوة المال الامبريالي والسعودي تفعل فعلها، حيث تتوجه هذه الأموال إلى أحزاب وجماعات سياسية وأجهزة إعلام وأفراد. وقد بلغت الأموال الأمريكية التي تدفقت لهؤلاء حسب مصدر موثوق (ربع مليار دولار أمريكي) في الشهور القليلة الماضية. كما يزداد عدد القنوات التليفزيونية الخاصة بشكل هائل لأفراد مجهولين لا يعرف أحد شيئاً عن مصادر انفاقهم على إقامة هذه القنوات، وتتشكل إمبراطوريات إعلامية، وكنموذج فإن شخصاً واحداً قام بشراء 14 قناة تليفزيونية دفعة واحدة منذ أسابيع قليلة، ومعلوم أن دور الاعلام وتأثيره لا يقل عن دور السلاح.. والحجة أننا نعيش في ظل اقتصاد حر! لكن الأنكى هو تدفق السلاح بشكل هائل عبر الحدود الجنوبية والغربية.
في ظل كل ما سبق فإن مسعى الطبقة اللصوصية الخائنة ونخبتها السياسية هو تفريغ طاقة الغضب والاحتقان الشعبي الهائل في مسارب جانبية بعيداً عن الأزمة الشاملة في البلاد، وعن أهداف الثورة، وعن التناقض القائم المطلوب حله. وذلك على محورين هما تسعير الفتنة الطائفية التي تجد بيئة مناسبة للنمو في ظل القهر الاجتماعي وغياب المشروع الوطني، ومحور آخر هو الهجوم الشرس والمتواصل على الجيش والعمل على إقصائه تماماً من المعادلة السياسية.
في ظل كل هذه الأوضاع، وفي بيئة صممت لكي تكون حاضنة للتعصب الديني والارهاب والفتنة الطائفية وحتى التجسس، والفوضى العارمة في المجتمع وتفشي الجريمة، وبعد يومين من إعلان المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن اعتبار تلقي أموال من الخارج بطرق غير قانونية ترقى إلى مستوى الخيانة العظمى، اشتعلت الفتنة الطائفية، ولا أدري عن الرابط بين الأمرين. لكن المتمولين من كل شاكلة وطراز أصابتهم حالة من الهياج الشديد. حيث اشتد الهجوم على الجيش بشكل غير مسبوق.
اللافت للنظر أن كل من تناولوا ما جرى في شارع ماسبيرو أمام مبنى التلفزيون المصري وهو حدث جلل بدون أدنى شك، قفزوا إلى النتائج دون أي تطرق للمقدمات. أي حالة الاحتقان والتعبئة الطائفية الجارية في ظل أزمة شاملة يعيشها المجتمع. وهو ما يدفع إلى اشتعال أشد للموقف، وإلى تسعير العداء للجيش وهو المؤسسة الوحيدة التي لم يطلها الدمار والتي تعد العمود الفقري للدولة المصرية والحافظة للكيان الوطني، مثلما يدفع إلى استثمار الحدث الطائفي لاستفزاز وابتزاز الجيش تحت شعار ضرورة التعجيل بنقل السلطة للمدنيين واختزال المرحلة الانتقالية لأقصى حد رغم ضرورتها لارساء الأوضاع الملائمة.
لا شك أن أداء المجلس الأعلى للقوات المسلحة متدن وليس على مستوى الظرف التاريخي الذي تمر به البلاد، لكنه لابد من أن نضع في الاعتبار الضغوط الهائلة عليه من الداخل والخارج ومن الاقليم على السواء. غير أن استجابته للابتزاز وتردده وحساباته قد أوقعته في خطأ تاريخي سوف نرى نتائجه خلال الانتخابات القريبة التي سوف تفرز برلماناً هو الأسوأ في التاريخ المصري. وهي الانتخابات التي سوف تجري تحت وطأة احتقان جماهيري هائل، سيجعل من أحداث ماسبيرو نموذجاً معمماً في طول البلاد وعرضها في أثناء الانتخابات وبعدها.
استجابة المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يواجه منذ الأسابيع الأولى للثورة هجوماً شرساً وابتزازاً من أسوأ نخبة سياسية أفرزها أسوأ نظام عرفته مصر يؤدي فعلياً إلى احتفاظ الطبقة الرأسمالية بهيمنتها على البلاد، وعدم المساس بمصالحها الطبقية واستمرار التبعية وافتقاد القرار الوطني المستقل. أي الإجهاض النهائي للثورة وأهدافها، وتحويلها إلى مجرد حدث تذكاري.
الحل العاجل للحدث المأساوي هو ضرورة التحقيق الجاد فيه وإعلان النتائج ومحاسبة المخطئ من كل الأطراف، وإصدار قانون دور العبادة الموحد وتغليظ عقوبة الاعتداء عليها وجعله «الإعدام».
لكن العلاج الفعلي للحالة المصرية يكمن في اتخاذ قرارات حاسمة لمصلحة الشعب والوطن ضد اللصوص الذي يتحتم مصادرة ما سلبوه من ثروات البلاد والتوجه إلى تنمية مستقلة شاملة وارساء العدل الاجتماعي، وهو ما سوف يلقى تأييداً شعبياً عارماً تتلاشى في ظله كل الفتن الطائفية وغير الطائفية، ويزيل البيئة الحاضنة لكل هذه الأحداث والأوضاع المهلكة التي سبق وأن تلاشت لحد كبير خلال فترة الستينيات حينما بزغ العدل الاجتماعي والتحرر الوطني، وأن تنعكس السياسة الداخلية على السياسة الخارجية لمصر.
إن هناك جهوداً هائلة من القوى المضادة للثورة لإحهاضها. وهنا فإن الوضع الراهن والمحاولات المبذولة لإنهاء هيبة الدولة من خلال كسر الجيش وتحويل العداء تجاهه وليس ضد الامبريالية والصهيونية والرأسمالية النهابة سوف يجعل ما حذرت وغيري منه منذ ما قبل الثورة من أن مصر مقبلة على «انفجار» أو «انهيار».
لقد حدث الانفجار الثوري الهائل دون طليعة ثورية. لكن ما يجري الآن- ومن أجل مصالح الطبقة اللصوصية وقوى التخلف والإرهاب- هو دفع البلاد صوب الانهيار.