أخيارنا
كريس هيدجز كريس هيدجز

أخيارنا

 ما بقي لكم أي عذر! إما أن تنضموا الآن إلى الانتفاضة البارقة في شارع «وول ستريت»، وفي شوارع مال المدن الأمريكية الأخرى، أو تركدون في الجانب الخطأ من التاريخ.

 

ترجمة موفق إسماعيل

إما أن تقطعوا طرق النهب التي تسلكها الطبقة المجرمة في وول ستريت، وتعترضوا على تدمير البيئة الحاضنة للجنس البشري، بالعصيان المدني، آخر وسائلنا، أو تغدوا ظهيراً سلبياً يساند تمكين الشر المتوحش.

إما أن تتذوقوا، تتحسسوا، تتنشقوا عبق  الحرية والتمرد أو تعبـّوا من سموم أبخرة اليأس واللامبالاة.

إما أن تكونوا ثواراً أو تكونوا عبيداً.

ففي بلدٍ لا يعرف معنىً لحكم القانون، حيث خضعنا لانقلابٍ نفذته الشركات العملاقة، وحيث انزلق الرجال والنساء العاملون في غياهب البطالة والعوز، وحيث الدولة لا عمل لها إلا الحرب والمضاربات المالية والرقابة، وحيث انعدم حتى جسد القضاء، وحيث أنك كمواطن ما عدتَ بالنسبة لسلطة الشركات العملاقة ونظامها أكثر من سلعة تـُستنزف فتـُرمى، صار أن تعلن «براءتك» يعني أن تتواطأ مع الشر المستفحل. وأن تقف على الحياد صارخاً «أنا بريء»! يعني أن تحمل ندبة قابيل؛ أن لا تساعد الضعفاء، والمقهورين والمعذبين، ولا تساهم في إنقاذ الكوكب. أن تعلن البراءة في هذا الزمن يعني أن تكون مجرماً.

اختر! لكن بسرعة! لأن قوى السلطة وكبرى الشركات عزمت على تحطيم الحركة ولن تنتظرك. إنها ترتعد خوفاً من انتشارها. وجهزت جحافل من أفراد البوليس على الدراجات النارية، وأرتالاً من العربات المصفحة، وجنداً راجلين لمطاردتك ببخاخات رذاذ الفلفل واصطيادك بالشبكات البلاستيكية البرتقالية. ونصبت حواجز معدنية في كل شارع من الشوارع المؤدية إلى مقاطعة نيويورك المالية، حيث كبار مدراء البيروقراطية اللابسين بزات «بروكس بروذرز» يستخدمون أموالك، الأموال التي سلبوك إياها، في المقامرة والمضاربات وإشباع نهمهم حتى بلوغ التخمة، بينما، خارج تلك المتاريس، يعتمد طفل من بين كل أربعة أطفال على الكوبونات لتوفير طعامه.

المضاربة في القرن السابع عشر كانت تعتبر جريمة وكان المضارب يُشنَق. أما اليوم فالمضاربون يديرون الدولة والأسواق المالية، ويبثون الأكاذيب الملوثة لفضائنا. وهم يعرفون، أكثر منك، كم استشرى الفساد في هذا النظام وعمته اللصوصية، وكم تلاعبوا به ضدك، وكيف غرست الشركات العملاقة مكانه طبقة أوليغارشية ضئيلة وحفنة خانعة من كوادر سياسة وقضاة وصحافيين يعيشون في قصورهم المسوّرة بينما طـُرد ستة ملايين أمريكي من منازلهم، قريباً يرتفع عددهم إلى عشرة  ملايين، حيث يُفلس مليون إنسان سنوياً لعدم قدرتهم على دفع تكاليف الطبابة، ويموت خمسة وأربعون ألف إنسان لفقدان الرعاية الصحية الكافية، وحيث يرتفع معدل البطالة الحقيقي إلى أعلى من 20%، ويقضي المواطنون، بمن فيهم الطلاب، حياتهم تحت ذل الديون وتخديم القروض، مضطرين إلى الاشتغال في أردأ الأعمال إذا سنحت لهم فرصة عمل، في عالم خال من الأمل، عالم الأسياد والأقنان!

الكلمة الوحيدة التي تعرفها هذه الشركات هي «المزيد». تنتزع آخر برامج الخدمات الاجتماعية الممولة من جيوب دافعي الضرائب، من التعليم وحتى الضمان الاجتماعي، لأنها تريد الاستحواذ على مال أكثر. فيا مريض لاقِ حتفك، ويا فقير اقضِ نحبك، ويا عائلات في الشوارع ارتمي!! وليتعفن العاطلون عن العمل، ولا داعي لأن يتعلم أطفال المدن أو الأرياف الجرداء وليُدفنوا في البؤس والخوف!! لينه الطلاب دراستهم دون توفير فرص عمل لهم أو مستقبل!! ولتتسع السجون، الأكبر في العالم الصناعي، لتستوعب كل الخوارج المستقبليين، وليستمر تعذيب السجناء. ولينضم إلى صفوف العاطلين عن العمل مزيد من المعلمين ورجال الشرطة والإطفاء وموظفي البريد والعاملين في الخدمات الاجتماعية!! وما همّ الشركات التي تسمح بخراب الطرقات والجسور والسدود والموانئ وشبكات الطاقة وخطوط السكك الحديدية ومترو الأنفاق، وبإغلاق خطوط حافلات النقل والمدارس والمكتبات!! وتدع درجة حرارة كوكب الأرض ترتفع، لتظهر انحرافات مناخية غريبة من أعاصير وجفاف وفيضانات وذوبان لقمم الجليد وتسمم للمياه الجوفية، وترتفع نسب تلوث الجو حتى تنتهي الأجناس إلى موات.

من ذا الذي يهتم، بحق الجحيم؟!

الحياة حلوة طالما ترتفع قيمة أسهم «إكسون موبايل» و«غولدمان ساكس» أو صناعة الفحم! خلف تلك المتاريس المعدنية، الربح ثم الربح ثم الربح هو ما ينشدون.. يغرزون أنيابهم ومخالبهم في أعناقك، فما لم تشلحهم عنك سيقتلونك قريباً جداً. كما سيقتلون البيئة ويهلكون أولادك وأولاد أولادك. فهم أغبى وأعمى من أن يدركوا أنهم فانون مع الجميع. لذلك إما أن تنهض نافضاً إياهم عن ظهرك، إما أن تفكك دولة الشركات في سبيل عالم يسوده العقل ولا نركع فيه للفكرة السخيفة القائلة بأن متطلبات الأسواق المالية يجب أن تحكم مسيرة الإنسانية، أو ستجدنا نمشي مشية الضفدع نحو الفناء ذاتياً.

أولئك الموجودون في الشوارع المحيطة بـ«وول ستريت» هم التجسيد الطبيعي للأمل. يدركون أن للأمل ثمن، يعلمون أنه ليس سهل المنال، ومكلفٌ يتطلب التضحية بالنفس، مثلما يتطلب الإيمان. ينامون على الإسمنت كل ليلة بملابسهم المتسخة ويلتهمون كميات من الخبز والمربى ما كانوا يتخيلون أنهم قادرون على التهامها يوماً. ذاقوا طعم الخوف، تلقوا الضرب، دخلوا السجون، أعماهم رذاذ الفلفل، بكوا، وعانق بعضهم بعضاً، ضحكوا، غنوا، تبادلوا الأحاديث في ندواتهم الجماعية، وراقبوا هتافاتهم تندفع صعوداً باتجاه مكاتب الأبراج العالية المطلة عليهم، متسائلين ما إذا كان الأمر يستحق العناء، ما إذا كان هناك من يهتم، وما إذا كانوا سينتصرون!! ولكن طالما أنهم صامدون فإنهم يشيرون إلى سبيل الخلاص والخروج من متاهة الشركات العملاقة.

هذا ما يعنيه أن تكون نابضاً بالحياة. أولئك أفضلنا. أخيارنا.