سكرة الموت - تصعيد يائس..
لا شك أن ما شهدته المنطقة مؤخراً من أحداث ومواقف، ابتداءً من الضغط الكبير الذي تمارسه فرنسا وبريطانيا على أوروبا، لرفع الحظر عن تسليح مقاتلي المعارضة ومن العصابات التي تقاتل في سورية، مروراً بزيارة أوباما إلى المنطقة، وما نتج عنها من تقارب نتنياهو - أردوغان العلني، واعتراف أوباما الواضح بيهودية الكيان الصهيوني، وانتهاءً بانعقاد مؤتمر قمة الدوحة (العربية)، التي سلّمت مقعد سورية إلى المعارضة الخارجية وهي الواجهة السياسية للمسلحين المتطرفين، وازدياد استهداف المسلحين للأحياء السكنية في دمشق، يدل على أن المتآمرين على سورية قد أصيبوا بهستيريا غير مسبوقة.
الغريب في الأمر أن المواقف العدوانية ضد سورية، لم تأت بجديد، لقد أصبح معروفاً للقاصي والداني، أن فرنسا وبريطانيا، ومنذ اليوم الأول لانفجار الأزمة في سورية، وهما تسلّحان بشكل علني وسرّي المعارضة المسلّحة، وضباط استخباراتهما متواجدون منذ اليوم الأول في غرف العمليات التي تدير، وتوجّه نشاطات هذه القوى المتطرفة.
كما أنّ تركيا و»إسرائيل»، لم توقفا يوماً تعاونهما الأمني والعسكري، ولم تتأثر علاقتهما الاقتصادية طيلة الفترة الماضية، كل ما في الأمر كان سحب للسفراء، ولم تكن الأزمة بين البلدين، سوى مسرحيّة إعلامية «لغاية في نفس يعقوب»، هذا ما توضح لاحقاً، ومنذ بداية موجة « الربيع العربي»، وتفجّر الأزمة في سورية.
واعتراف أوباما بيهودية «إسرائيل»، لم يكن جديداً، حيث يشهد تاريخ العلاقة بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، ومواقف أمريكا من الحروب التي شنّها الكيان ضد الدول العربية، وعلى الفلسطينيين، على أنّ أمريكا كانت تدعم وتبارك كل حروب «إسرائيل»، ومجازرها التي ارتكبتها ضد المواطنين العرب والفلسطينيين، واستخدمت موقعها في المحافل الدولية بشكل عام، وفي الأمم المتحدة بشكل خاص، لمنع أية إدانة لـ«إسرائيل»، وإصدار أي قرار ضدها، آخر هذه المواقف كان استخدامها الفيتو في مجلس الأمن لمنع حصول فلسطين على مقعد في الأمم المتحدة.
معروف كذلك أن جامعة الدول العربية، ومنذ انفجار الأزمة وقفت مباشرة ضد النظام في سورية، ودعمت وسلّحت علناً متطرفي المعارضة وغيرهم من عصابات مسلّحة، ولم يخلُ يوماً مقرّها من ممثلين لهذه الجهات. الأمر ليس غريباً، فالجامعة أصلاً قد أسست في نهاية الأربعينيات، بمبادرة ودعم بريطاني وفرنسّي لحماية الكيان الصهيوني، لأن تلك الفترة شهدت مداً قومياً عربياً كبيراً، وتخوفت هاتان الدولتان، من أن يجد هذا المد القومي العربي، إطاراً تنظيمياً له، يكون خارجاً عن تأثيرهما وسيطرتهما عليه، والذي قد يؤثر على تأسيس الكيان الصهيوني في المنطقة، وعلى مصالحهما فيها، لذلك تم تأسيس الجامعة آنذاك، بواسطة الأنظمة العربية التي أوصلتها هاتان الدولتان إلى الحكم، وفصّلوا للجامعة، نظاماً داخلياً مناسباً، يمكّن أية دولة من الدول الأعضاء، تعطيل أي قرار يصدر في غير صالحهما. لذلك نجد أنّ كل القمم والمؤتمرات التي عقدتها الجامعة منذ تأسيسها وحتى الآن، لم تخدم سوى «إسرائيل»، وكان دائماً يجري احتواء المواقف القومية لأية دولة عضو في هذه الجامعة، وتستر الحكومات المتآمرة خلف البيان الختامي للقمة، والتاريخ القريب يشهد على عدم تمكن الجامعة من عقد قمة استثنائية، أثناء العدوان على غزة، وعندما انعقدت لم يصدر عنها سوى الإدانة الشكلية لـ«إسرائيل».
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا هذا التصعيد العلني والمتسارع في هذه الفترة بالذات؟
لا شك أن هناك عوامل كثيرة تقف وراء التصعيد أهمّها:
أولاً: بالنسبة للولايات المتحدة التي خططت وأشرفت على ابتلاع وركوب موجة ما يسمّى بالربيع العربي، كانت تعتقد أنها بذلك ستتمكن من تجاوز أزمتها المالية والاقتصادية، عن طريق إشعال حرب في المنطقة، دون مشاركتها المباشرة، وثانياً ضرب محور المقاومة في المنطقة، وإسقاط وتقسيم الدول التي قد تشكل مرتكزات استراتيجية للصين وروسيا، منافسيها الأساسيين على الساحة الدولية، لكن صمود سورية بشعبها وكل مكوناته حتى الآن، يهدد بأن تتحول النتائج إلى عكسية بالنسبة لأمريكا، وهي مضطرة بعد أن أدركت تراجعها الاستراتيجي على الساحة الدولية، لأن تجلس مع روسيا في وقت قريب لإنهاء الأزمة في سورية سياسياً، وللتفاهم حول ملفات دولية أخرى، قد تكون أكثر أهمية للولايات المتحدة في وضعها الحالي، لذلك عمدت إلى التصعيد لمحاولة كسب أوراق رابحة تضعها على طاولة التفاوض، وإن لم تتمكن من ذلك تحمل المسؤولية عن الفشل لأدواتها، الذين ستساوم عليهم أثناء التفاوض.
ثانيا: بالنسبة لفرنسا وبريطانيا، فقد أدركتا أن أمريكا استثنتهما من المعادلة، وذاهبة للتفاوض وحدها، لذلك تحاولان تصعيد الوضع ولو سياسياً وإعلاميا، لفرض نفسيهما على أيّة توافقات قادمة قد تحصل، للأخذ بمصالحهما على الساحة الدولية بعين الاعتبار.
ثالثا: بالنسبة لقطر والسعودية وتركيا، فقد تورطت في الأزمة السورية أكثر من اللازم، بحيث أصبح مستقبل أنظمة هذه الدول السياسي مرهوناً بهزيمة سورية، لذلك تحاول وبكل ما تملك من وسائل قوة، بعد أن أدركت استحالة الإسقاط العسكري، إطالة الأزمة لإعاقة الحل السياسي الذي لن يكون في مصلحتهم.
من هنا نستنتج أن هذا التهويل والتصعيد من المتآمرين على الشعب السوري، ما هو إلا سكرة موت مشروعهم التآمري، الذي فقد مقومات نجاحه، بفضل وعي وصمود الشعب السوري بكل مكوناته، ووقوف الدول الحليفة والصديقة إلى جانبه. والمطلوب حالياً لقطع الطريق على أية انتكاسات قد تحصل، هو البدء بحوار وطني شامل بأسرع وقت ممكن، وبمن حضر، للخروج الآمن من الأزمة، والاتفاق على معالجة الأسباب التي أدت إلى انفجارها، كي لا تتكرر في المستقبل، وتبقى سورية سيدة قرارها، وركناً أساسياً من أركان المقاومة للمشاريع الاستعمارية التي تحاك ضد المنطقة.