موسكو.. بكين.. بيونغ يانغ... الردّ كان سريعاً
أثارت زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى المنطقة، وما نتج عنها من تراجع في الموقف الأمريكي حيال الأزمة في سورية، وإعطاؤه الضوء الأخضر لأدواته في المنطقة لتصعيد الموقف، وتصريح المتحدثة باسم البيت الأبيض، أن الإدارة الأمريكية تدرس إمكانية إقامة حظر جوّي شمال سورية، المخاوف من عدم إمكانية الاتفاق الروسي – الأمريكي بشأن الحل السياسي للأزمة السورية، واحتمال اندلاع حرب في المنطقة ستنعكس تداعياتها على العالم بأسره
طبعاً، وكما أصبح معروفاً، فإنّ الهدف من الزيارة وما نتج عنها، ليس موجها ضد سورية ودول المنطقة الممانعة فحسب، بل وضد دول «البريكس»، بشكل عام، وبخاصّة أنها أتت أثناء انعقاد قمتها التاريخية في جنوب أفريقيا، وضد روسيا والصين المنافسين الرئيسيين على الساحة الدولية، بشكل خاص.
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا هذا التصعيد الأمريكي المفاجئ، بعد التغيير الملحوظ في الخطاب الأمريكي مؤخراً لمصلحة الحل السلمي للأزمة في سورية، والاتفاق مع روسيا على أن يتابع نواب وزيري خارجية البلدين مناقشة السبل الممكنة لحلها؟.
لا شك، هناك أسباب عديدة دفعت أمريكا إلى هذا الموقف أهمّها:
أولاً – رسالة إلى مجموعة دول «البريكس» المجتمعة في جنوب أفريقيا، أنّ أمريكا مازالت قويّة بأدواتها، ولديها الكثير من الأوراق التي تمكّنها من مواجهة النتائج التي ستسفر عنها القمة، والتي ستكون بالتأكيد على حساب المصالح الأمريكية والغربية.
ثانياً – تهديد واضح إلى روسيا والصين، بأنّ أمريكا مازالت مصرّة على تدمير سورية، وإبعاد تأثيرهما عن المنطقة، في محاولة للضغط على كلتا الدولتين، لإعاقة التعاون والتقارب بينهما على حساب المصالح الأمريكية في العالم.
ثالثاً – إعطاء جرعة دعم معنوية للقيادة التركية، التي تواجه أزمة داخلية كبيرة، نتيجة تدخلها في الأزمة السورية، بإجبار نتنياهو الاعتذار من أردوغان بسبب الاعتداء على سفينة «مرمرة»، والموافقة على تقديم التعويضات لأسر الشهداء الأتراك.
رابعاً – إعطاء دعم سياسيّ لأدوات أمريكا العرب، الذين ربطوا مصيرهم السياسي بمصير الأزمة في سورية، نتيجة تورطهم السافر فيها، لتصعيد الموقف، كي تستخدمهم ورقة رابحة في التفاوض من جهة، وتحميلهم وحدهم لاحقاً مسؤولية فشل المؤامرة على سورية.
خامسا – رفع معنويات الكيان الصهيوني المنهارة نتيجة صمود الشعب السوري، والمخاوف التي أخذت تزداد في «إسرائيل» مؤخراً بقرب نهاية وجودها في المنطقة.
مباشرة، أدركت روسيا والصين وحلفاؤهما الجيو سياسيين، بمن فيهم كوريا الديمقراطية، خطورة المناورة السياسيّة الأمريكية، وتعنت واشنطن في تخليها الطوعي والسلمي عن مشاريعها الاستعمارية بما ينسجم مع واقعها الجديد، وما يشكلّه ذلك من تأثير على المصالح القومية لتلك القوى حول العالم، لذلك أرتأت فيما يبدو الرد الفوري، القوي والحازم، والأكثر واقعية على التصعيد الأمريكي والأوروبي اليائس على الساحة الدولية، تجلّى:
أولا: بإعطاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأوامر من على متن الطائرة وفي الساعة الرابعة صباحاً، أثناء عودته من قمة دول «البريكس» من جنوب أفريقيا، لقيادة الجيش الروسي بإجراء مناورة عسكرية، واسعة النطاق في البحر الأسود، ووصل مباشرة إلى مكان المناورات لمتابعتها، دون إخطار قيادة الحلف الأطلسي بذلك، وهي سابقة لم تشهدها روسيا منذ انتهاء «الحرب الباردة».
ثانيا: إعطاء رئيس كوريا الديمقراطية الأوامر لقيادة الجيش بتوجيه الصواريخ العابرة للقارات إلى المدن الأمريكية، وقواعدها في المنطقة، بما فيها التي تحمل رؤوساً نووية، والبقاء على أهبة الاستعداد، لتلقي الأوامر بإطلاقها، وقطع الخط الهاتفي الساخن بين القيادتين العسكريتين الكورية الديمقراطية «الشمالية» والجنوبية، رداً على المناورات العسكرية الأمريكية المشتركة مع كوريا الجنوبية في المنطقة ( طبعاً، لم يكن ذلك ليحدث لولا تلقي الضوء الأخضر من الصين الحليف الرئيسي، والمنفذ الرئيسي لكوريا الديمقراطية على العالم).
إنّ هذين الردّين القوييّن جداً، لهما مدلولاتهما السياسية والدبلوماسية العديدة أهمها:
- أنّ زمن القطب الواحد انتهى إلى غير رجعة، وعلى أمريكا التأقلم مع الواقع الجديد، وبأقل الخسائر إن فعلت ذلك طوعاً.
- أنّ صبر القوى المتعارضة مع النفوذ الأمريكي بدأ ينفد، والوضع الدولي المتأزم، لا يحتمل مناورات سياسيّة – استعراضي أمريكية.
- لدى تلك الدول ما يكفي من الوسائل والإمكانيات للتدخل العسكري المباشر، إذا تتطلب الأمر، وتعرضت مصالحهما ومصالح حلفائهما للخطر، على عكس أمريكا وحلفائها الأوروبيين.
- رسالة تهديد روسية قويّة وحازمة، للاتحاد الأوروبي الذي يستهدف عمداً الودائع المالية الروسية في البنوك القبرصية.
نستنتج من كلّ ذلك، أن العالم اقترب من لحظة الحسم التاريخية، لمصلحة تشكل نظام دولي، يستجيب لتوازن القوى الجديد الذي تشكل، وأن أمريكا أذكى من أن تعرّض نفسها والعالم إلى حرب تدرك أنّها ستكون المتضرر الأكبر من نتائجها.