طائفية وطن «قوته في ضعفه»!!
ستيركوه ميقري ستيركوه ميقري

طائفية وطن «قوته في ضعفه»!!

الوطن هو تلك البقعة الجغرافية التي يعيش فوقها الشعب بمختلف طوائفه ومكوناته، ويعتبر الولاء للوطن من القضايا الأساسية التي من خلال التمسك بها يمكن التفريق بين الوطني واللا وطني «الخائن»، فما بالك إذا تحول الولاء من ولاء للوطن إلى ولاء للطائفة في بلد صغير لا تتعدى مساحته الـ 10452 كم2، وعدد سكانه يزيد قليلاً عن أربعة ملايين نسمة، هاجر منه أربعة أضعاف هذا الرقم «حوالي 15 مليوناً» إلى بلاد الله الواسعة بسبب الطائفية البغيضة التي لا يمر الولاء للوطن إلا عبرها. وطن مرشح لحرب أهلية بمعدل مرة كل عشر سنوات، بلد تضم مكوناته 18 طائفة متعصبة نشأ عنها تسييس للدين وتديين للسياسة، وانقلبت فيه المفاهيم رأساً على عقب حتى قيل عنه إنَّ «قوته في ضعفه».

والطائفية هي بالأساس نتاج وسلاح للنظام الرأسمالي العالمي الاستعماري حيث يتمكن عند تأجيجها من إحداث تلك التناقضات التناحرية بين أطياف المجتمع الواحد، فتحل هذه التناقضات محل التناقض الأساسي في الرأسمالية بين العمل ورأس المال وتخفف من حدته، وتحرف نضال الطبقة العاملة الطبقي إلى أشكال أخرى تقف الطائفية على رأسها خصوصاً في البلاد المستَعْمَرة.

إن لبنان بتركيبته الطائفية المتعصبة مؤهل وبشكل يومي بانفجار حروب أهلية بين هذه الطائفة أو تلك في أية لحظة، وتوضح دراسة صادرة عن الحزب الشيوعي اللبناني أن المشكلة الطائفية في لبنان، تكمن في نظام إدارة المجتمع والدولة على أساس طائفي، مما يتيح استخدام الدين والطائفة في التجاذبات والصراعات الطبقية السياسية لقوى داخلية وخارجية ذات مصالح خاصة بها ومتعارضة، وفي لبنان لن تتحسن الأمور إلا إذا نظر الجميع إلى هذا البلد كوطن واحد له شعب واحد وعلم واحد، لا فسيفساء من الرايات تجعل منه مجموعة من الأندية لكل ناد علمه وشعاراته ولاعبوه الأساسيون والاحتياط وجماهيره الخاصة به.

طوائف لبنان

في لبنان تنوع حضاري وثقافي وديني، ويوجد فيه ثلاث ديانات معترف بها هي اليهودية والمسيحية والإسلام. وتعترف الحكومة اللبنانية بـ 18 طائفة دينية معترف بها رسمياً ويمثلها أعضاء في مجلس النواب اللبناني. وهذه الطوائف هي:

- الطوائف الإسلامية:

السنة: وتعود مرجعيتهم الدينية إلى دار الإفتاء. ويشكلون حوالي 30%.

• الشيعة: ومرجعيتهم الرسمية إلى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ويشكلون حوالي 29%.

• الدروز: ومرجعيتهم الروحية اليوم مشيخة العقل ولكن لا يعترف بها الأرسلانيون فاختاروا لأنفسهم شيخ عقل آخر. ويشكلون حوالي 5%.

• العلويون: مرجعيتهم رئيس المجلس الإسلامي العلوي في لبنان. ويشكلون 2.5%. الإسماعيليون: وهم أقلية، ومرجعيتهم الدينية خارج لبنان.

•  الطوائف المسيحية

الموارنة: مرجعيتهم بكركي يشكلون حوالي 23%. الروم الأرثوذكس: ومرجعيتهم بطريرك انطاكية وسائر المشرق  يشكلون حوالي 9%، الروم الكاثوليك:مرجعيتهم بطريرك انطاكية وسائر المشرق الذي يتخذ من سورية مقرا له يشكلون حوالي 5%. الأرمن الأرثوذكس: يشكلون حوالي 3%، الارمن الكاثوليك يشكلون حوالي 1%، السريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك، ثم هناك الكلدان الوافدون من العراق واللاتين: المنحدرون عن الصليبيين في لبنان والانجيليون: يشكلون 1%. ثم هناك الأقباط الأرثوذكس والأقباط الكاثوليك. وأخيراً الأشوريون: طائفة مسيحية جاءت إلى لبنان من بلاد ما بين النهرين.

تشريح الطائفية في لبنان

إن المفارقة الغريبة في لبنان هي أنه في الوقت الذي يفرض قوانينه على مُواطِنِه في كل الحقول، فإنه لا يعترف به كمواطن إلا بصفة كونه منتمياً إلى طائفته أولاً، أو آتياً بشهادة من تلك الطائفة تصدِّق انتماءه إليها.
ولذا فمن البيِّن أن كل كلام على المواطن لا يستقيم إلا على خط موازٍ للطائفة التي ينتسب إليها، بالولادة أو بالولاء وهؤلاء الأبناء ليسوا في الواقع سوى مواطنين مشوا تحت رايات طوائفهم كممر إجباري للعبور إلى الوطن.
وقد شكل جبل لبنان ملاذاً للأقليّات من الاضطهاد في الشرق الأوسط. وهذا ما أدّى إلى تكوين المجموعات البشرية المنعزلة والمتمسكة بتراثها وطقوسها ثم تصاعد نفوذ الكنيسة المارونية في ظلّ ملء الفراغ السلطوي العثماني، وتبنّيها ودعمها لثورة الفلّاحين في وجه المشايخ الدروز والموارنة أيضاً، ممّا أكسب الكنيسة غطاءً شعبياً وجعل منها الراعي والمرجع لكتلة اجتماعية متماسكة ومتنامية القوة والتأثير في جميع المجالات، وفي أواخر القرن العشرين تصاعد النفوذ الشيعي مع موسى الصدر وحركة أمل ثم معها ومع حزب الله بزعامة حسن نصر الله .

ثم أتى اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية القائمة منذ عام 1975 فأقر المناصفة بين ممثلي المسيحيين والمسلمين في المجلس النيابي والحكومة، وموظفي الفئة الأولى فرئيس الجمهورية مسيحي ماروني ورئيس الوزراء مسلم سني ورئيس البرلمان مسلم شيعي وقائد الجيش مسيحي ماروني وقلل كثيرا من صلاحيات رئيس الجمهورية، وكل هذا لم يأت به نص دستوري بل أصبح عرفاً منذ عام 1943، وبات هذا العرف أقوى من النصوص بما فيها الدستور. وقد جاء في اتفاق الطائف الذي أضحى في صلب الدستور اللبناني، أنه من الضروري تشكيل هيئة وطنية لبحث كيفية تجاوز الطائفية، وضرورة انتخاب أعضاء المجلس النيابي الثاني خارج القيد الطائفي، مع استحداث مجلس شيوخ للطوائف. لكنه كرّس بالنص التقاسم الطائفي والمذهبي للمواقع الرئيسية للدولة كما تبين، ونشأ عن ذلك وعن الممارسات السلطوية التي يطغى عليها طابع المحاصصة الطائفية والفئوية، ترسيخ وتفشي الطائفية في الدولة والمجتمع، ولم يجرِ تشكيل الهيئة الوطنية لبحث كيفية تجاوز الطائفية، ولا انتخاب أعضاء المجلس النيابي الثاني بعد الأول القائم على المناصفة، خارج القيد الطائفي ودخلت الطائفية إلى كل مجالات الحياة في لبنان الاجتماعية والفكرية والثقافية والرياضية والفنية وغيرها فبيروت التي كانت تعتبر واحة للحرية الثقافية في صحراء واسعة أصبحت فيها الرقابة الطائفية ذات نفوذ لا يجارى فكل طائفة تقف حارسة على الثقافة وتضع «الخطوط الحمر» التي تناسبها، بدءاً من أيام منع كتاب «نقد الفكر الديني» لصادق جلال العظم الذي حوكِم بسبب مضمونه النقدي، إلى إزالة لوحة للفنانة زينة الخليل في 12 تموز الجاري، من معرض بيروت للفنون كانت تحمل عنوان «سوبر ستار»، وتمثّل أمين عام «حزب الله» مبتسماً، وتجمع إضافة إليه ملصقاً للفنانة اللبنانية الأصل شاكيرا.

الديمقراطية الطائفية التوافقية

وينحصر  تاريخ لبنان الحديث في أنه كان وما يزال يشكل  صراعاً سياسياً بين زعماء توزّعوا على الطوائف، جراء ترسيخ الطائفية على مراحل في الحياة السياسية اللبنانية، بعد أن كانت الطائفية على المستوى الاجتماعي فقط، وكل جيل يسلم الزعامة للجيل الجديد والوضع الذي لبنان عليه منذ عام 1860 حتى الآن يبرهن أن ما يُسمّى بـ «الديمقراطية التوافقية» ليست النظام المناسب للشعب اللبناني، والبرهان هو إحصاء عدد الأزمات والحروب الأهلية والضحايا والأموال المهدورة والمشاريع العالقة التي نتجت، وتقوم هذه الديمقراطية التوافقية على ضرورة تمثيل كافة الطوائف في الحكومة وتتخذ القرارات فيها بالاتفاق والتوافق وليس بالتصويت ولو كان أكثرية الوزراء من لون واحد مما يؤدي في الكثير من الأحيان إلى تأجيل اتخاذ القرارات لمدد قد تمد شهوراً أو حتى سنوات.

كيفية التخلص من الطائفية ؟.

إنه لا شك أهم سؤال قد يطرحه اللبنانيون: كيف يخرجون من هذه الدوامة التي تتصاعد عنفاً في الشوارع، وتتفشى كرهاً وحقداً في النفوس، وتزيد فساداً وثراءً في الطبقة الحاكمة، وتنخر فقراً وقهراً في الطبقة المحرومة؟ علما أن الديون التي يغرق الشعب اللبناني في تسديدها وخدمة فوائدها تقدر بـ 55 مليار دولار في بلد لا يتجاوز إجمالي ناتجه السنوي عن 42 مليار دولار عام 2010، والحالة اللبنانية خاصة وفريدة، فالنظام القائم في لبنان يميل للعلمانية على أساس «أن الدين لله والوطن للجميع»، ولكنه بالوقت نفسه طائفي متدين يضع المواطنة في موازاة الطائفية يتعامل معها اللبنانيون وبشكل يومي، منذ أن تشكَّل لبنان ككيان سياسي اجتماعي عبر ولاداته المتواترة «دولة لبنان الكبير 1920، وجمهورية الاستقلال 1943، وجمهورية الطائف 1989»، حيث لا شيء ينمو ويتحرك خارج أسوار الطوائف.

وللإجابة على هذا السؤال لا بد من الانطلاق أولا من ضرورة توفر النية الصادقة للتخلص من هذه الآفة ومن جميع الأطراف، ولا شك أن الانطلاقة الأولى تبدأ من المطالبة الشعبية بتعديل القانون الانتخابي، بحيث يكون لبنان دائرة انتخابية واحدة واعتماد قاعدة النسبية ويكون التصويت فيه للقوائم وليس للأفراد، كما هو معمول به في ظل القانون الحالي، ولو أن هذا لن يلغي الطائفية من النفوس، لكنه سيسمح لتلك الاحزاب التي تغيب قسراً عن البرلمان ويسمح أيضاً  للمستقلين المتمتعين بالكفاءة والحاملين لمشاريع اقتصادية تنموية أن يوصلوا صوتهم إلى الشعب اللبناني، ورداً على تخوف بعض المسيحيين من قانون النسبية في أنه سيقضي على الوجود المسيحي في لبنان أو أن المسيحيين لن يتمكنوا من انتخاب ممثليهم بأنفسهم، يجب التوضيح في أن القيام بإجراء التحالفات السياسية المناسبة التي تضمن لهم مصالحهم كفيلة بالحفاظ على حقوقهم، وقد تكون هناك حاجة لتطمينات أولية للمسيحيين، تزول تدريجياً مع تكريس الحياة المدنية وإزالة الطائفية.

ولأحد المثقفين اللبنانيين تعليق ظريف يقول فيه أنه «لن يصح تقديم التهاني إلى أي حزب سياسي لبناني حقيقي قبل أن نقرأ في لوائحه القيادية تنوعاً في الأسماء يتخطى ميشيل وطوني وحنا وبيار مثلما يتخطى محمد ومحمود وحسن و حسين »ودون أدنى شك فإن الحزب الشيوعي اللبناني هو الحزب الوحيد مع «القوميين السوريين نوعا ما» الذي حقق هذه المعادلة وتجاوز الطائفية.