التركيز على القبائلية الليبية = الفوضى اللاخلاقة
عشية الغزو الأمريكي للعراق لم يمنعنا العداء للطاغية صدام حسين من الوقوف إلى جانب شعبنا في العراق ضد الغزو الأمريكي، وطالبنا بمقاومة المحتلين الجدد الذين استخدموا النظام الاستبدادي عن بعد لتنفيذ مخططاتهم بضعة عقود إلى أن انتهت صلاحيته لينتقل العراق من حكم الطغاة إلى حكم الغزاة، لأن الاستبداد لا يورث سوى الهزيمة!.
وهكذا هي الحال الآن مع طاغية ليبيا معمر القذافي الذي اختزل الشعب الليبي «بشخصه» على مدى 42 عاماً، معتمداً على أبناء العمومة وتسعير الروح القبلية في ليبيا وتبديد ثروات الشعب لشراء الذمم وتجنيد الأنصار في الداخل والخارج وصولاً إلى حصوله على لقب «ملك ملوك إفريقيا» من القبائل الإفريقية في البلدان غير العربية.
لم يعرف الشعب الليبي طيلة حكم القذافي مصطلح «الشعب يريد»، بل الشعب يجب أن يطيع «أولي الأمر منكم» أي كما يشاء الحاكم الفرد الصمد «الواحد الأحد»، وقد قالها القذافي في خطابه الأخير: «أنا المجد وأنا الشعب ونحن أجدر بليبيا»! وكان ابنه «زيف الأحلام» قد هدد قبل والده بيوم واحد أنه سيعيد الشعب الليبي إلى عصر القرون الوسطى من خلال حرب أهلية لعشرات السنين، إن لم يقبل بحكم الأسرة الحاكمة وكذلك هدد مجدداً بـ«سطوة القبائل الليبية التي يعتمد عليها»!.
وكما يقول المثل الشعبي: المتكبر يرى الناس صغاراً.. ويرونه أصغر.
وهذا ما أثبته الشعب الليبي من خلال انتفاضته من 17 شباط الجاري، أن أي مستبد مهما علا شأنه هو أصغر بما لا يقاس من إرادة شعبه، وأن ثمن الحرية أقل بكثير من ثمن العبودية والاستبداد.
إن للشعوب ذاكرة لا تضعف بالتقادم، كما أن التراكم الكمي سيفضي إلى تحول نوعي يبدأ بولادة الإرادة ثم التغيير، ولكن إلى أين وكيف؟.
لا شك أن الحدث الليبي جماهيري بامتياز، وأسبابه غياب الحريات السياسية وتفريغ المجتمع وتحويل اللانظام إلى «نظام» جوهره شهوة الحفاظ على السلطة المطلقة والاستئثار بثروة البلاد وتبديدها في الداخل والخارج خدمةً لتأبيد «اللانظام» بالحديد والنار.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية وحلفاؤها في الدولة الغربية قد فوجئوا بمسار الأحداث في كل من تونس ومصر، وحجم المشاركة الجماهيرية فيهما، ثم حاولوا لاحقاً استدراك ما فاتهم بهدف حرف الثورتين عن أهدافهما الرئيسية، إلى محاولة الإبقاء على جوهر النظام لجهة بقاء الدولتين في فلك السياسة الأمريكية في المنطقة، فإن السلوك الأمريكي والغربي عموماً تجاه ليبيا أخذ شكلاً مختلفاً من حيث الأداء والتوجه والذي يخدم الثورة المضادة في تونس ومصر.
بين ليلة وضحاها تعرّف المشاهدون عبر قناة الجزيرة على العشرات من قادة الإخوان المسلمين في ليبيا والموجودين في العواصم المغربية المختلفة، والذين بالغوا في استجداء الدول الأجنبية للتدخل وحسم الصراع ضد القذافي متناسين أن الطاغية الليبي لم يكن يوماً في حالة تعارض مع المشاريع والسياسات الأمريكية والأوروبية في المنطقة.
تحولت انتفاضة الشعب الليبي على الإعلام الموجه- على قلته- من طابعها الجماهيري إلى الحديث عن القبائل الليبية وزعمائها ودورها الحالي واللاحق في مصير ليبيا بمفردات تعود لما قبل الدولة الوطنية، وبدل انشغال العالم بالحرب الإجرامية التي يشنها القذافي ومرتزقته في الداخل ومن الخارج، جرى قصف إعلامي شديد على وعي المشاهد ليحفظ أسماء القبائل الكبرى والصغرى والموالية والمعارضة للنظام مع أسماء زعمائها.
تولّت بعضُ وسائل الإعلام، وخاصةً محطة «الحرة» مهمة وضع الرأي العام العربي مجدداً بعد انتصار الفصل الأول من ثورتي تونس ومصر، أمام الثنائية الوهمية: «إما أمريكا وإما استمرار نظام القذافي»، وهذا في حد ذاته يشكل أكبر المخاطر، ليس على الشعب الليبي فقط، بل على استكمال مهام الثورتين في تونس ومصر.
لعل أشد ما تخشاه الجماهير العربية هو نذر التدخل الأجنبي المباشر في ليبيا على شاكلة ما حدث في العراق عبر تعميم «الفوضى اللاخلاقة»، سواء من بوابة صراع القبائل وشرق وغرب ليبيا، أو من خلال لجوء القذافي إلى استخدام أسلحة غير تقليدية ضد الجماهير أو حتى هروبه إلى إحدى البلدان الإفريقية وتجنيد بعض قبائلها برعاية أمريكية وأطلسية، ما يستدعي لاحقاً التدخل العسكري المباشر لا لحماية الشعب الليبي، بل للسيطرة المباشرة على النفط.
وفي النهاية لن ينقذ الموقف في ليبيا إلاّ الشعب الليبي نفسه، عبر تعزيز الوحدة الوطنية والمحافظة على وحدة أراضيه ورفض أي شكل من أشكال التدخل الاستعماري الخارجي، وفي الوقت ذاته تحصين الانتفاضة الليبية من سرقة أهدافها أو عودة أيِّ شكل من أشكال الاستبداد على شاكلة نظام القذافي.