ليبيا.. نموذج الفوضى الخلاقة القادم
كان واضحاً تماماً أن مسار الثورات في المنطقة العربية ينبئ بالمزيد من التغيرات ليست الكمية فقط بل النوعية، جاء أهم هذه التغيرات حتى الآن في مصر والذي يفتح باب التساؤل في العديد من الاتجاهات؟
قد يكون أولها من التالي؟ ولكني ولعل أهم هذه الأسئلة عن ماهية الرد الذي يفرضه هذا التغير على المتأثر الأكبر من هذه التغيرات في المنطقة أي الولايات المتحدة؟
كان من البدهي أن الوقوف ضد التيار يعد انتحاراً رخيصاً لذلك رأت الولايات المتحدة والغرب أن ركوب الموجة ومحاولة السيطرة عليها لسحبها إلى الأماكن التي ترى فيها الولايات المتحدة مصدر إزعاج لها في المنطقة هو ضرورة لا بد منها للتعويض عن تلك الخسائر الجسيمة الناتجة عن سقوط أنظمة حليفة إن أمكن...
بداية تمت محاولة سحب عباءة الثورة إلى الدول الممانعة والتي تتبنى المقاومة كإيران وسورية بغية استغلال الظرف لتوجيه ضربة مباغتة لكن سرعان ما باءت بالفشل..
يتجلى خبث الإدارة الأمريكية في سرعة إنتاج البدائل، ولكن هذه المرة لم تستدع الحالة إعادة إنتاج مفهوم جديد، بل إن كل ما يتم الآن هو إعادة إنتاج لمفهوم الفوضى الخلاقة بنسخة أوباما (القوة الذكية) يرى الأمريكان وحلفاؤهم في الغرب. إن هذا المفهوم هو حلهم الاستراتيجي للسيطرة على المنطقة والخروج من أزمتهم الراهنة المستمرة أو تأخير نهوضها على الأقل كحل قد ينجح تكتيكياً، ولكنه خاسر بالمعنى الاستراتيجي كما حصل في العراق وأفغانستان.. يعاد إنتاج هذا المفهوم على أرض الواقع بالأحداث المتصاعدة دراماتيكياً في ليبيا، فهاهو معمر القذافي يلعب دوره المرسوم أمريكياً كما لعبه من قبله صدام حسين بكل سذاجة، فالقذافي الذي ظل خلال 42 عاما مشوشاً بهذياناته على كل القوى السياسية الصاعدة في المنطقة، يحاول اليوم أن يلعب الدور نفسه، ولكن بطريقة أوقح.. ربما ما لم يكن واضحاً أمام الرأي العام في المجتمع العربي هو درجة تبعية هذا النظام للغرب ولأمريكا، ولكننا لا ننسى أن القذافي الذي ادعى عداءه الزائف للغرب أعلن توبته في منتصف العقد الماضي، وتجلى ذلك بدفع تعويضات لأهالي ضحايا لوكربي بكل سخاء وإغداق المال الليبي على صفقات السلاح الفرنسي التي يستخدمها اليوم ضد شعبه، وتوطيد تحالفه التاريخي مع نظام برلسكوني الذي كان من ألمع قادة احتلال العراق، بالإضافة الى مطالبة سورية في عز أزمة اغتيال الحريري بالتخلي عن برنامجها النووي، وأن تحذو حذو ليبيا في ذلك.. كان ذلك الاستمرار الطبيعي لنظام ادعى الثورية بينما كان يمارس حالة ابتذال لنموذج التحرر في دول العالم الثالث. زد على ذلك قيامه بإغداق المال السياسي وإفساده المنظم لقادة الحركة الوطنية اللبنانية وبعض فصائل الثورة الفلسطينية، وصولاً إلى الدور الذي لعبته مخابراته بإفشاء معلومات سرية عن قيادات الحركات الثورية للمساهمة بتصفيتها وخاصة بعد إعلان توبته.
يمضي اليوم معمر القذافي بهذياناته ملقياً بخطاب موتور يرعد فيه ويزبد كطاغية استشعر دنو اجله ونهايته كزعيم مقدس لا معبود سواه، يمضي بهذره محاولاً التشويش على مرحلة النهوض الثوري بمسرحية هزلية بدأت باستخدام قوة مفرطة غير مبررة في وجه تحركات أقصى ما توصف به بأنها لا تتطلب أكثر من جهاز شرطة مدرب لاحتوائها لو كان يريد ذلك.. لكن الرد الوحشي الذي سكت عنه الغرب وأمريكا في يومه الأول إلى اليوم الرابع من الاحتجاجات الليبية، يوحي بأنه كان بمثابة الضوء الأخضر للاستمرار به حتى تحقيق الهدف المخفي وراء هذا العنف...
بني هذا الترحاب المبطن من الغرب المنافق على تصور عن أن ليبيا تمثل النموذج الأمثل في هذه المرحلة لتنفيذ مشروع الفوضى الخلاقة، فليبيا الآن هي عبارة عن (نظام قمعي وحشي يمارس عربدة همجية في وجه تحركات ديمقراطية مشروعة.. مجتمع قبلي مهلهل بانقساماته العشائرية، غياب شبه تام للحركة السياسية كان من الممكن أن تمارس عائقا جدياً، ثروات نفطية هائلة وغيرها..)، أي إنها أفغانستان الجديدة، والتي يراد منها هذه المرة ان تكون موقعاً جذاباً لحلف شمال الأطلسي وللقوات الأمريكية التي بات يخشى من بقائها قبالة السواحل التونسية أي أن المبرر الأفضل لتدخل عسكري هو ما يمارسه النظام الليبي ودبلوماسيته وأركانه المتهاوية تباعا بطريقة مستهجنة لتعلن اصطفافها في ما تريد أن تسميه بالثورة، والتي لم نسمع لها حتى الآن أي شعار سياسي أو مطلبي واضح على الرغم من تأكيدنا على ضرورة الوقوف مع مطالب الشعب الليبي في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والقضاء على الفساد والخلاص من هذا المعتوه العميل.. ولكننا عندما نتكلم بلغة الواقع يجب أن نعي تماما ما يعنيه وما ينتجه غياب أي حراك سياسي، حتى ولو كان شكلياً، خلال 42 عاما مضى- يتحمل مسؤوليتها بشكل أساسي هذا النظام المهزلة –، فهذا الواقع يشير إلى وجود كل الشروط المهيئة لبيئة حاضنة لانتماءات ما قبل الدولة الوطنية، هذا بالإضافة إلى هشاشة جهاز الدولة الذي قد يلعب دوراً ممانعاً وجامعاً في مثل هذه الأوقات الصعبة، إلا أن معمر القذافي اختصره خلال 42 سنة بمجالس هزلية، وهذا ما نرى نتائجه اليوم من خلال عدم وجود أية قوى واضحة منظمة لهذا الحراك، وحتى أولئك الدبلوماسيون والوزراء المسارعون للانضمام إلى صفوف الثوار -على حد تعبيرهم – قاموا بذلك بطريقة مستغربة وكأن هناك من أخبرهم بأن ما كان قبل أسبوع يعد من أحد أعتى ديكتاتوريات العالم سوف يتهاوى كعقد المسبحة ..
إن كل ما قد سلف يفرض علينا التفريق بشدة بين ما هو ثوري وبين ما يراد أن يبدو ثورياً ليخدم مجموعة من الأفكار، أهمها ضرب النماذج الثورية اللاحقة وخاصة في البلدان التي تتقاطع بنيتها مع بنية الواقع في ليبيا من حيث وجود أنظمة عميلة للأمريكان ووجود تناقضات أثنية في مجتمعاتها (كاليمن والمغرب والعراق).. ويبقى أهم الأهداف التشويش على الجارين الثائرين وقطع الاتصال الجغرافي بينهما وتأمين قواعد انطلاق بديلة، فبالنسبة للولايات المتحدة يعد مرور السفينتين الإيرانيتين إلى البحر المتوسط عبر قناة السويس مؤشراً سلبياً على مستقبل العلاقات مع النظام المصري البديل..
على الأرجح، وحتى الساعة، وبغض النظر عما سيتوصل إليه مجلس الأمن، فإن تسارع الأحداث يوحي باستمرار المسرحية إلى فصلها الأخير، متمثلة باستمرار القذافي بسحق شعبه معلناً وقوفه البطولي ضد كل التدخلات الخارجية ،وصولاً إلى تورط القبائل بالرد العسكري، ومن ثم دخول حرب أهلية مستعرة تستدعي تدخل حلف شمال الأطلسي تحت مظلة مجلس الأمن.. وهو ما بدأ يترجم بالملموس بتحرك فرقاطة بريطانية إلى قبالة السواحل الليبية أو التدخل العسكري الأمريكي المباشر، والذي توحي به تصريحات هيلاري كلينتون عن التحرك وفقا للقوانين الأمريكية.
كان هذا السيناريو هو الفكرة التي أوصلها سيف الإسلام بخطابه الصريح الوقح عندما خير الشعب الليبي بين نظامه البدائي المعدل على هواه، أو الاحتكام للسلاح وصولاً لتدخل أجنبي..
سحقاً للإمبريالية، وسحقا لكل أدواتها القذرة.. والنصر للشعب الليبي ولشعوب العالم في معركتها العصيبة..