حركة الاحتجاج الأمريكية.. المآل والمصير
مع تزايد تأثير حراك «احتلال وول ستريت» وطنياً وعالمياً، يزداد إلحاح السؤال «وماذا بعد»؟ ورغم عدم إمكانية الإجابة عن السؤال ببساطة إلا أنه توجد أفكار عامة يمكن أن تساهم بالربط بين «حركات الاحتلال» والمجتمع الأوسع الذي يضم 99% من الناس، وهو ما يمثل المهمة الأكثر إلحاحاً في هذه اللحظة. لأن نخب الشركات العملاقة تخشى توحد الحركة وتعاظم قدرتها، كما يخشى مصاصو الدماء ضياء الشمس، وكما يقول كريس هيدجز:
ترجمة موفق اسماعيل
«قوى السلطة وكبرى الشركات عزمت على تحطيم الحركة ولن تنتظرك. إنها ترتعد خوفاً من انتشارها. وجهزت جحافل من أفراد البوليس على الدراجات النارية، وأرتالاً من العربات المصفحة، وجنداً راجلين لمطاردتك ببخاخات رذاذ الفلفل واصطيادك بالشبكات البلاستيكية البرتقالية». فالسبب الوحيد الذي يغذي البقع المحتلة ويسمح لها بالاستمرار هو تعاطف الـ99% من الشعب المترافق مع المشاركة المباشرة من قِبل قطاعات واسعة من الشغيلة في المظاهرات والمسيرات.
لذلك تقوم حكومات المدن بإبطاء حركة الاحتلال في مناطق قوتها، مثل نيويورك وبورتلاند وأوريغون وغيرها، وتهاجمها بسرعة حيث النار حامية وعلى وشك الانتشار كدنفر وبوسطن ومثيلاتها. وحتى الآن أمـّنت مظاهرات نيويورك ودنفر الضخمة الحماية للبقع المحتلة، بينما يحاول العمدة والبوليس ووسائل الإعلام تشتيت الرأي العام من خلال تشويه صورة توحد الحركة، أو حرف الانتباه باتجاه تعاطي المخدرات وممارسات عنف فردية... الخ.
وفي مواجهة هذه الوسائل، يتعين على جماهير حركة الاحتلال التوحد على هدف عام يقدمونه لأولئك الذين يشكـّلون الـ99% ولم ينزلوا إلى الشوارع بعد؛ ولأجل الحفاظ على استمرارية تعاطف من يشارك في الاحتجاجات. ورغم أن بعض أجزاء الحركة تسخر من فكرة طرح المطالب، إلا أن الضرورة تفرضها. فالمطالب تلفّ الناس حول النشاط والفعل، وتـُمايزهم عن خصومهم؛ كما تحدد أهداف الحركة وتعمق التواصل وتوسّع دوائر الانتشار بين الناس. ثم ما الذي يمكن كسبه إذا لم يتم طرح مطالب!!
أحد أهم أسباب قوة الأثرياء يكمن في توحدهم حول مطالب محددة تزيد من أرباح كبرى شركاتهم: خفض الأجور والتعويضات، وتدمير النقابات، وتخفيض معدلات الضرائب عن شركاتهم، وتدمير برامج الخدمات الاجتماعية، والخصخصة، وإنهاء الضمان الصحي والدوائي والتأمينات الاجتماعية... الخ. لذا نحن أحوج ما نكون إلى طرح مطالب ترص صفوف الحركة وتجتذب أناس الـ99%، وتحثهم على الاشتراك بالفعل، مطالب تنتزع العمال من مضاجعهم وتجعلهم ينزلون إلى الشارع. المهمة الملحة الآن هي إعلان تلك المطالب المحفزة لغالبية أناس الـ99% للمشاركة بارتكاب الفعل على الأرض.
على الصعيد الوطني، تبين الاستفتاءات المتتالية التي أجريت أن أغلبية الأمريكيين متوافقون على مطالب واضحة، حظيت بتأييد النقابات العمالية، هي: فرض الضريبة على الأغنياء من أجل إيجاد برامج توظيف في قطاع الدولة، تعليم عام ومدعوم كلياً من الدولة، إيقاف الحروب. وهي مطالب كفيلة بتوحيد الحركة والشغيلة على امتداد الولايات المتحدة، وبمنع الحزبين الرسميين من الركوب على موجة الحراك. أما على صعيد المدن والولايات، فيمكن أن تأخذ ذات المطالب صيغاً مناسبة محلياً، فالولايات والمدن، مثلاً، تواجه عجوزات في الميزانية أدت إلى مزيد من البطالة وتخفيض في الإنفاق على التعليم والخدمات الاجتماعية. وبالتالي يمكن لحركة الاحتلال المحلية أن تطالب الـ1% من الأثرياء المحليين بدفع ما يتوجب عليهم لحل تلك المشاكل وإيجاد مزيد من فرص العمل.
وكما تتحد الشركات العملاقة أثناء ركضها خلف الأرباح على تخفيض الإنفاق على الخدمات العامة، يتعين علينا التوحد في سبيل حماية هذه الخدمات وفرض الضرائب على أرباح الشركات على المستويين المحلي والوطني.
ورغم أن مجال حركة الاحتلال مفتوح لتبني طيف واسع من المطالب المتعلقة بمعيشة الطبقة العاملة، يتعين علينا، في هذه اللحظة، التركيز على ما يوحد غالبية الناس، خاصة وأن الشركات العملاقة صبت جهودها على تقسيمنا، طيلة عقود. علاوة على أن المطالب العمالية الأوسع يمكن أن تحظى بالتأييد بعد توفير مساحة آمنة للتعبير عنها وتطويرها ضمن حركة جماهيرية موحدة.
بلا ريب، يتعين على حركة الاحتلال شق طريق توسعها وتحولها إلى حركة اجتماعية جماهيرية وإلا سوف تنكمش إلى أن تتمكن نخب الشركات العملاقة من القضاء عليها. ولكي تنمو الحركة لا بد لها من اجتذاب جماهير الـ99%، لا الاكتفاء بالـ10% من التقدميين، بالتركيز على مطالب محددة يدافع عنها الشغيلة وتجتذب الحركة العمالية المنظمة، والمتقاعدين، والطلاب، وأبناء الأقليات، أي الطبقة العاملة بمجملها. مع العلم أنه لم تنشأ حركة عمالية واسعة في الولايات المتحدة الأمريكية منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، حينما أنجزت آخر تغيير تقدمي هائل في أمريكا، رغم قصورها أمام مستوى ما أنجزته أوروبا في مجال برامج الخدمات الاجتماعية. ومع ذلك يجري الهجوم على مكتسبات الحركة الجماهيرية السابقة وإنجازاتها، من التأمين الاجتماعي حتى مستوى الرواتب والأجور. ولا يمكن حماية هذه البرامج الاجتماعية وتوسيعها إلا من خلال طبقة عاملة حقيقية فاعلة.
أما إذا أخفقت حركة الاحتلال فلسوف يتجبر اليمين الأمريكي المرتعد حالياً من بروز حركة كامنة القوى. وإذا خرجت المبادرة من أيدينا فلسوف يـُطبق اليمين عليها لطرح برامجه وتسريع تنفيذها. لذلك ليس أمامنا سوى توسيع نطاق الحركة لكنس سلطة نخب الشركات العملاقة.
التاريخ يقف إلى جانبنا، فلنستفد منه لحظةَ أصبحت حركة الاحتلال تمثل نقطة انعطاف فيه. ولكن تحقيق القوة الكامنة فيها وتحويلها إلى واقع يقتضي تواصل الحركة مع الـ99% وضم الغالبية إلى صفوفها، ليصبح بمقدورها آنذاك تغيير أجندات هذا الوطن، وإعادة تشكيل خريطتها السياسية، وإيجاد حكومة تسعى لتلبية حاجات الغالبية العظمى لا كماليات أقلية الـ1%.
عندما يبدأ تجسد هذا التغيير في الحركة، لا حدود لما يمكن أن تنجزه.
• كاتب ونقابي وعامل في مجال الخدمة الاجتماعية