البعد الدوليّ للأزمة السورية (2/2)
د. فريد حاتم الشحف د. فريد حاتم الشحف

البعد الدوليّ للأزمة السورية (2/2)

ما يميّز سياسة الولايات المتحدة دائماً، هو التناسق الهارموني في العناد والتتابع، في الأهداف والصلابة في طرق الوصول إلى هذه الأهداف. 

وما يساعدها في ذلك هو الإخطبوط الإعلامي الضخم الذي تمتلكه، ونظام الحزبين. لم يستطع فشل سياسة بوش إلاّ أن يولّد المحاولة في الولايات المتحدة لإيجاد طرق أخرى، واستراتيجية أخرى للوصول إلى الهدف، الذي سارت وتسير عليه أمريكا منذ عشرات العقود.

لذلك ظهرت أمريكا الجديدة، متجليّة برئيس أسود، حائز على جائزة نوبل للسلام، تخلّى «طوعيا» عن دور الديكتاتور، وأخذ على نفسه «رسالة» صعبة، بأن يكون قائدا للإنسانية على طريق «عصر جديد من التعاون المتبادل».

ووضعت الدولة الأعظم في العالم قوّتها في خدمة «المنفعة العامّة»، أمّا الدول الأخرى، والتي «أدركت» مسؤوليتها، فقد توحّدت حول الزعيم، وساهمت بقسط كبير في «حل» المشاكل الإنسانية الكونية العامّة. بدت وكأنّ هذه العقيدة، عقيدة إستراتيجية برّاقة، تستجيب لوقائع القرن الجديد، لكنّها أخذت بالتصدع بسرعة كبيرة.

توضّح بسرعة أنّ الدولة التي تستهلك ضعف ما تنتج، يختلف تصوّرها عن «المنفعة العامّة»، كثيرا عن غيرها من الدول والشعوب الأخرى.

وتبيّن أن شراء القيادات السياسية في دول أخرى، على مبدأ – أن الولايات المتحدة تغمض عينيها عن «الخاصيّة الوطنية للديمقراطية»، مقابل أن تكون دولهم تابعة لأمريكا، لا أفق لها.

أدركت الولايات المتحدة الأمريكية، بأن المشاكل المتراكمة في دول العالم الثالث، وبخاصّة في الدول العربية، ستؤدي حتما إلى ثورات، وسقوط الحكام الموالين، وقررت ترؤس الحركة الشعبية، وتوجيهها في الاتجاه «الصحيح»، بدل أن تضيّع قواها سدى، لإنقاذ الأنظمة التي استهلكت نفسها. وهذه الإستراتيجية لن تجلب أيّة مغامرة جديّة للهيمنة الأمريكية في المنطقة، وهي استمرار لسياسة «الثورات الملوّنة»، الموجّهة إلى تشكيل حكومات «وطنية» أكثر استقراراً، وأكثر انصياعاً، تكون بمثابة لبنات قوية لإمبراطورية الولايات المتحدة، تضمن لهم السيطرة على أنابيب النفط والغاز وضخّه في الاتجاهات «الصحيحة» ، وتؤثر على مصالح روسيا والصين في هذه الدول، وتمكنها من تنفيذ المشاريع التي فشلت إدارة بوش الابن من فرضها عن طريق القوة العسكرية.

الحسابات هنا واضحة: إنّ أمريكا التي تمتلك التفوق المطلق على كل الدول الأخرى، في المجالات العسكرية والاقتصادية والإعلامية، ولديها إمكانية القيام بالخطوة الأولى، ورسم قواعد اللعبة، ستكون المستفيد الأكبر من هذه الأزمات.

طبعاً لقد نجحت أمريكا في إسقاط بعض الأنظمة العربية، ضمن موجة ما يسمّى الربيع العربي، لكنّها تدرك جيداً، أن هذا النجاح سيكون مؤقتاً، وسيؤدي إلى نتائج عكسية، في حال فشلت مخططاتها في إسقاط النظام في سورية، وتقسيمها إلى دويلات، لذلك نراها وبعد حوالي العامين، لا تريد الاعتراف بالفشل، وتحاول بكل الوسائل الاستمرار إعاقة أيّ حل سياسيّ للأزمة، والضغط على أدواتها في المنطقة، للاستمرار بإرسال الأموال والأسلحة والإرهابيين، علّها تخفف من وطأة الهزيمة القادمة لامحالة.

لم تكن هذه الأزمة لتطول وتستمر حتى الآن، لولا التدخل التركي السافر، وفتح النظام في تركيا حدود بلاده لتدفق الإرهابيين والسلاح، وإيوائه لمعسكرات تدريب لهم، واستضافة خبراء عسكريين واستخباراتيين، ليقودوا ويوجّهوا العمليات الإرهابية داخل سورية.

السبب يعود إلى أن تركيا التي بقيت طوال القرن العشرين، على هامش الحياة السياسية الدولية، تحاول اليوم بقيادة حزب العدالة والتنمية، إحياء الأمجاد العثمانية، من خلال موجة ما يسمّى الربيع العربي، وبخاصّة، بعد وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر وتونس. لكنّها تدرك أنّ أوهامها لن تتحقق إلاّ بإسقاط سورية، وخروجها من المعادلة السياسية في المنطقة وذلك لأسباب عديدة أهمّها:

 أولا – سيقلل من التأثير الإيراني في العالم العربي، كون سورية هي الحليف الأوّل لإيران في المنطقة.

ثانيا – سيعطي تركيا مكانة الشريك الأول الضامن لحقوق الفلسطينيين، وهو الدور الذي تقوم به سورية حاليا.

ثالثا – إزالة المنافسة السورية في العراق، حيث تعمل تركيا ومنذ زمن على توسيع تأثيرها هناك.

رابعا – سيقوّي تعاون تركيا مع السعودية، وهذا ما يضمن لتركيا فوائد اقتصادية ملموسة.

خامسا – سيمهد لتركيا الطريق أمام لعب دور «العثمانيين الجدد»، في العالمين العربي والإسلامي.

لكن القيادة التركية، والتي صعد نجمها بسرعة في المنطقة، نتيجة بعض مواقفها إلى جانب القضية الفلسطينية، وتعاون سورية وإيران الاستراتيجي معها، بعد تغيّر مواقفها تجاه قضايا المنطقة، لا تدرك أنها تلعب بالنار، وأنها لن تكون سوى أداة، يستخدمها الغرب عند الحاجة، ثم إهمالها عندما تنتفي الحاجة إليها، لتبقى منتظرة على أبواب الاتحاد الأوروبي دون إذن بالدخول، وعندما تعود ستجد أبواب المنطقة مقفلة في وجهها، لتبقى كما كانت على مدى القرن العشرين، على هامش السياسة الدولية.

لن تتمكن القوى الغربية من إسقاط سورية، وتجربة السنتين الماضيتين أثبتت ذلك، و لا أن تؤثر على محور المقاومة والممانعة في المنطقة، وذلك لأسباب عديد أهمها:

أولا: لأنّ الشعب السوري بقواه الوطنية والقومية، قد أدرك حجم المؤامرة وأبعادها.

ثانيا: لأن لدى سورية المناعة الكافية لمواجهة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.

ثالثا: لدى سورية ما يكفي من القوة العسكرية لمواجهة أي عدوان عسكري محتمل.

رابعا: لأنّ سورية تلعب دوراً جيوسياسياً مهما في المنطقة، ولديها ما يكفي من الوسائل للتأثير والرد.

خامسا: استحالة تدويل الأزمة، لمكانة سورية الجيوسياسية، ووقوف قوى دولية لجانبها أهمها روسيا والصين وإيران.

كما أن الأحداث قد أكدت لكل من روسيا والصين، أن المستهدف من هذه الاضطرابات والأزمات، ليس شعوب المنطقة وأنظمتها فحسب، وإنما مصالح هذه الدول ومستقبل دورها الجيوسياسي العالمي، لذلك شاهدنا كيف أن هاتين الدولتين، استخدمتا الفيتو مجتمعتين ولأول مرة في التاريخ، على مشروع القرار الموجّه ضد سورية في مجلس الأمن، أكثر من مرّة، لتقول للولايات المتحدة وحلفائها كفى التفرد بالقرارات السياسية الدولية، وأن هناك أقطاباً جديدة على الساحة الدولية، لديها كل المقومات لأن تلعب دوراً ريادياً في العالم، ولها مصالحها التي لن تفرط بها من الآن وصاعداً.