إيران والمناورات الدبلوماسية
أثار انتهاء الجولة الأخيرة من المحادثات بين إيران ومجموعة دول (5+1)، التي عقدت في كازاخستان، حول برنامجها النووي، دون التوصل إلى نتائج، الكثير من التساؤلات حول مستقبل المحادثات بهذا الشأن، وجدوى الضغوطات التي يمارسها الغرب على إيران، للتخلّي عن برنامجها النووي، وبخاصّة بعد تدشين طهران معامل جديدة لتصنيع اليورانيوم والتلويح بإمكانية رفع مستوى التخصيب إلى 50%
من الممكن الإجابة على هذه التساؤلات، وذلك بإلقاء الضوء على كيفية التعاطي الإيراني مع الضغوطات الغربية، التي لم تتوقف منذ انتصار «الثورة الإسلامية»، وسقوط نظام الشاه عام 1979، الهادفة لإضعاف إيران ومحاصرتها، كي لا تشكّل عائقاً أمام المخططات والمشاريع الغربية التي تستهدف المنطقة.
إن المتابع للشؤون الإيرانية، وبخاصة بعد 1979 يدرك أن «قيادة الثورة» رسخت نظاماً سياسياً في البلاد، يستند إلى دستور يضمن مسألتين رئيسيتين:
أولاً: الحفاظ على مكاسب الثورة، وإبقاء الزعامة الدينية هي الفيصل في الأمور التي تهم شؤون الدولة.
ثانياً: ضمان درجة ما من ديمقراطية سياسية تعطي الجمهور حق اختيار القادة السياسيين، الذين يلبون طموحات المرحلة.
وإذا عدنا لاستعراض السياسة الخارجية الإيرانية على مدى العقدين الماضيين، نجد أنها كانت تتوافق وتتلاءم تماماً، مع التفاعلات السياسية الدولية وطبيعة المرحلة التي تمر بها إيران والمنطقة، وهذا ما يدفع إلى الاستنتاج أن القيادة الإيرانية استوعبت تماماً، اللعبة الديمقراطية الغربية والأمريكية بخاصة، وأوصلت إلى سدة الرئاسة تلك الشخصيات القادرة على استيعاب المرحلة والتعامل معها بكل جديّة وحنكة، بما يخدم المصالح السياسية الإيرانية.
دفع الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، وما رافقه من حالة عدم الاستقرار في المنطقة، القيادة الإيرانية إلى إعادة النظر في سياستها الخارجية والداخلية، خشية محاولة الولايات المتحدة التدخل في الشؤون الداخلية الإيرانية، أو التدخل العسكري لقلب نظام الحكم، لذلك انتقلت إلى التشدد في سياستها الخارجية، وإلى إجراءات سياسية أكثر فعالية. وهذا ما انعكس في الانتخابات البرلمانية عام 2004، حيث شكل من يسمّون بالمحافظين أغلبية أعضاء البرلمان، ومن ثم وصول الرئيس محمود أحمدي نجاد إلى سدة الرئاسة، والذي يمثل حسب التصنيفات السياسية الغربية، المحافظين الراديكاليين.
ودشّن وصول أحمدي نجاد إلى سدة الرئاسة مرحلة جديدة من السياسة الخارجية الإيرانية، حيث بدأ بتقوية وتشديد السياسة الخارجية الإيرانية. بهدف، أولاً: حشد الجماهير الإيرانية لضمان مساندتها للقيادة في الخطوات التي تتخذها في مجال السياسة الخارجية، وبخاصة بعد الاحتلال الأمريكي لكل من أفغانستان والعراق. وثانياً: تفويت الفرصة على أمريكا والدول الغربية، من الحصول على أية تنازلات من إيران، فيما يخص برنامجها النووي السلمي، أو مساعدتها لقوى الممانعة والمقاومة في المنطقة.
اعتمدت إدارة محمود أحمدي نجاد ثلاثة مفاصل متكاملة في السياسة الخارجية، أولاً: التحدي الأمني الجديد الذي فرضه الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، دفع القيادة الإيرانية للتعامل بدبلوماسية مرنة من خلال توسيع تعاونها مع الدول العربية الكبرى في المنطقة السعودية ومصر، ودخولها محادثات مباشرة مع التحالف الغربي فيما يتعلق بالوضع الأمني لكل من أفغانستان والعراق.
ثانياً: إدراك إيران وقيادتها أن الولايات المتحدة قدمت بقواتها إلى المنطقة لتبقى فيها لفترة طويلة، وهذا ما دفعها إلى تقوية علاقاتها ودعمها لدول الممانعة في المنطقة، وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية والأفغانية والعراقية، لمساعدتها في مواجهة ومقاومة الاحتلال أكان أمريكياً أم «إسرائيلياً»، وذلك لإفشال المخططات العدوانية التي تحاك ضد المنطقة، وعدم تمكين الولايات المتحدة من تحقيق أهدافها في السيطرة والهيمنة.
ثالثاً: الاستمرار في تطوير البرنامج النووي الإيراني السلمي، الذي يعتبر حاجة ملحّة لتطور العلم والاقتصاد الإيراني المتنامي بسرعة، وعدم التساهل أو المساومة فيما يتعلّق بهذا الموضوع. وهذا ما تجلّى في رفض البرلمان التصويت على البروتوكول الإضافي للاتفاقية الموقعة مع المنظمة الدولية للطاقة النووية في 24 تشرين الثاني/ أكتوبر عام 2005، وفي تقليص ووقف التعاون الاقتصادي مع الدول التي صوتت ضد مصالح إيران في هذه المنظمة الدولية، وأوقفت الاستيراد نهائياً من بريطانيا وكوريا الجنوبية في نهاية تشرين أول (أكتوبر) عام 2005.
استمرت القيادة الإيرانية في انتهاج سياسة براغماتية فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي الداخلي، وتطوير القدرات الدفاعية، هذا ما تجلّى في إدخال أنواع جديدة متطورة من الأسلحة محليّة الصنع إلى الخدمة في الجيش، وإطلاق أقمار صناعية محلية الصنع محمولة بصواريخ محلية الصنع أيضا إلى الفضاء الخارجي، والانتهاء من العمل في محطة بوشهر الكهرذريّة.
إنّ الاقتصاد الإيراني اليوم (وحسب إحصائيات المخابرات المركزية الأمريكية CIA)، هو في الترتيب الخامس عشر من حيث حجم الناتج الوطني والأقوى بين دول غرب آسيا ومنظمة أوبك. وفي عام 2007 تجاوزت إيران تركيا من حيث الناتج القومي، لتصبح صاحبة الاقتصاد الأقوى في العالم الإسلامي. وإيران قريبة اليوم من أن تصبح دولة صناعية، حيث أن حصة الصناعة في القيمة الإضافية المتشكلة فيها زادت عن 22% واقتربت من 23%، وتعتبر الدولة صناعية، عندما يصل هذا المؤشر إلى 25%.
تدرك إيران أن الضغوطات التي مورست وتمارس عليها اليوم، ليس بغية منعها من تصنيع سلاحٍ نووي، بقدر ما هو محاولة لكبح تطور الاقتصاد الإيراني، وإضعاف دورها في المنطقة، وأن المرحلة الحالية تشهد تراجع أمريكا والغرب على المستوى الاستراتيجي، لذلك تعمد في الفترة الأخيرة، وبشكل متكرر ومنتظم، لإظهار قدراتها العسكرية والعلمية، والمشاركة بفعالية في لعبة المناورات السياسية الدولية في المنطقة، وتستخدم بذكاء كبير دبلوماسيتها، كي تكسب الوقت، وتثبت دورها الإقليمي المتزايد، وأنها ركن من أركان النظام العالمي الجديد الذي أخذ في التبلور، وسيعلن انتصاره بعد تجاوز سورية لأزمتها.