تونس في محطة صناديق الاقتراع
توقف قطار الثورة التونسية عند صناديق الاقتراع لانتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً جديداً للجمهورية التونسية وتدير دفة الحكم خلال مرحلة انتقالية. وقد انتهت الأمور إلى فوز حزب النهضة «الإسلامي»، لكنه لم يحقق أساساً برلمانياً كي ينفرد بالحكم، رغم أن قادته أعلنوا أنهم لن يعالجوا الأمور على أساس أكثرية وأقلية، ومدوا أيديهم إلى مختلف الاتجاهات.
لم تكن النتائج مفاجئة، فحزب النهضة حزب قديم تأسس عام 1981 وكان حزباً معارضاً لحكم بن علي وكان ملاحقاً، ويطرح تساؤل هام ألا وهو لماذا، وأية عوامل مباشرة أو غير مباشرة، لعبت دورها في تلك النتائج الانتخابية؟! أما السؤال الأخر فيدور حول الآفاق التي تواجه حزب النهضة قبل كل شيء، وحلفائه في الحكم أيضاً والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها تكمن في أن الدكتاتورية وأجهزة أمنها، لا يمكن لها، في اي بلد، أن تحول دون النشاط الديني، ولا تستطيع أن تسد سبله ومنافذه بما فيها التواصل الدائم مع الجماهير الشعبية، وقد أثبتت الأحداث أن الدكتاتوريات لا تستطيع سد سبل إلا الأحزاب المسماة علمانية أو يسارية، وأن الديمقراطية ليست مسؤولة عن نتائج الانتخابات التونسية كما يحاول البعض تشويه الأمور، بل جاءت النتائج طبيعية وأدت إليها ما لحق بالحريات الديمقراطية أيام بن علي وأجهزته وأدواته.
أما العامل الآخر فإن بعض الأحزاب العلمانية أو الليبرالية أو اليسارية كانت مطوقة أيام بن علي رغم أنها كانت أحزاباً قانونية وبين السلطات ونظام الحكم خيوط تواصل، ولم تأخذ دور الأحزاب المعارضة فعلياً فعزلت نفسها عن الجماهير الشعبية وغاب بعضها بصورة كاملة عن الحراك الجماهيري، ولم يكن بمقدورها إيصال صوتها إلا إلى نطاقات محدودة قد لا تتجاوز أعضاؤها، وقد أضحت تلك الأحزاب في حالة هرمة سياسياً واجتماعياً.
وفي الوقت نفسه فإن الأحزاب العلمانية واليسارية التي عارضت حكم بن علي واجهت آلة القمع الأمني ولم تكن في تلك الظروف قادرة على توسيع نطاق فاعليتها وتأثيرها، وقد أثر سلباً مآل الحزب الشيوعي التونسي بعد الأحداث التي أودت بالاتحاد السوفيتي، وخاصة انقساماته وانحراف أجزاء منه.
إن حزب النهضة يعلن أنه سيكون الحزب الديني النموذجي في المنطقة العربية ويعلن التزامه الكامل بالديمقراطية والتعددية وانتقال السلطة، كما أعلن أنه مع حقوق المرأة غير منقوصة، وساعده في ذلك أن التدابير السابقة في هذا المجال لم تكن مادة لمعارضته حكم بورقيبة ومن بعده بن علي يضاف إلى ذلك أن العديد من قادة حزب النهضة عاشوا عشرات السنوات في البلدان الأوروبية وتأثروا في نظرتهم لمعالجة العديد من المسائل الاجتماعية.
معروف أن تونس بلد سياحي وتتمركز الحركة السياحية في المدن الساحلية وقد تأثر سكان الشريط الساحلي بالنظرات الأوروبية والحياة الأوروبية، ويظهر حزب النهضة بوصفه حزب «بتاع كله»، ناهيك عن أنه لم يتعرض لهزات تنظيمية داخلية، رغم أن العديد من قادته كانوا في الداخل التونسي وتعرضوا للسجن والملاحقة، ولكن التنظيم كانت روابطه قوية وخاصة في أماكن الفقر والتجمعات السكانية الداخلية، وقد تجنب حزب النهضة خلال المرحلة السابقة، أيام بن علي، خوض معارك إيديولوجية مع الأحزاب العلمانية واليسارية ويجاهر حالياً أن خلافاته معهم محدودة بنقاط معينة وقد لا تكون لها مفاعيل ملموسة في أرض الواقع التونسي.
إن الوضع معقد في تونس، فهناك قلة المواد التي لا تتعدى البوتاس والزيتون وينتشر الفقر والبطالة فهل ستكون أيام الديمقراطية التونسية القادمة قوة في معالجة تلك المشاكل، خاصة وأن السياحة أخذت تعاني تحت تأثير الأزمة الرأسمالية العامة التي تسحق الجماهير الشعبية الأوروبية وتزيد الشرائح الوسطى تراجعاً وانهياراً في حياتها وتقاليدها وإقبالها على السياحة؟
أتخطو الديمقراطية الوليدة نحو حالة نمو طبيعي يأخذ أبعاده الاجتماعية لمعالجة القضايا التي أثخنت جراحها جماهير الشعب التونسي أو أن حداثة تجربة تلك الأحزاب في إدارة شؤون الحكم سيكون لها مفاعيلها السلبية وتصبح الديمقراطية مشوهة وعارية القدمين فتزداد البطالة وتسوء المعيشة ويزداد الفقر؟
أنضيف أن التعقيدات الأخرى كامنة في صلب حزب النهضة وأن تنوع مكوناته سيشق دوربه، وهل يستطيع نفر من قادته أن يفرض ما في ذهنه على طول الخط، أم أن من ظلوا في السجون أو ملاحقين سيكون لهم رأي أخر في المسائل الاجتماعية بما فيها حقوق المرأة والتشريعات السابقة المرتبطة بهذا الشأن. إن العامل الإيجابي هو أن أيام الثورة التونسية طرحت بقوة مسألة ترابط المسائل الاقتصادية والاجتماعية بالمسائل السياسية وشكل ذلك حافزاً يمكن أن تستمر فاعليته وتأثيره كي لا تسقط الديمقراطية في شكلانية أو تحاصر بصناديق الاقتراع أو تقتصر عليها.
يقيناً إن مسائل الثورة لم تنته وأن الفرز في الأحزاب والمجتمع سيشهد لوحات جديدة، وليس من العقلاني القول إن حزب النهضة سيحافظ على وحدته التنظيمية رغم أنه رسخ في صفوفه موضوعة قائلة إن تكوين مركز قوي لا يمكن إلا أن يكون عبر دروب الديمقراطية داخل الحزب ذاته.
من البدهي القول إن التوجهات التونسية على الصعيد العربي ستكون أكثر تعقيداً، من ذي قبل، إنها ستتجاوز مرحلة التعاطي الشكلي مع القضايا العربية، وخاصة القضايا المغاربية ومن الطبيعي أن تزداد خشية نظم مغاربية من التجربة التونسية وهي في معترك متنوع الميادين مع تنظيمات دينية متعددة، إن تأثير حزب النهضة داخلياً وعربياً مرتبط بمدى جديته في تحقيق ديمقراطية لا يغيب عنها الجوهر واللب الاجتماعي ومرتبط بمدى جديته توفير اسس للتحالف الذي يدعو له ومرتبط بمدى المصداقية إزاء انتقال السلطة ديمقراطياً ومعالجة القضايا الجماهيرية.