إنقاذ الثورة.. من الإمكانية إلى الواقع
المشهد الآن في عالمنا العربي، وفي مصر مرتبك ومفزع، مملوء بالتناقضات والتقاطعات والفتن وعمليات التزييف والادعاءات. يختلط الصدق بالكذب، والثورة بالثورة المضادة، والعزة الوطنية بالعمالة، وقوة الفعل الثوري بقوة المال الامبريالي والنفطي.
العالم العربي كمسرح متسع، فيه كثير من العرائس المتصلة بخيوط تمسك بها الامبريالية والصهيونية حيث تتحرك العرائس في ركن قصي من المسرح هو مشيخات النفط في الخليج. وفيه قوى الفعل الثوري الحقيقية تتحرك بقوة الضمير والإرادة الثورية.
في مصر تريد الأقلية من طواغيت المال وقوى الجهالة والتخلف إعادة المشهد الثوري وتثبيته عند نقطة ما قبل الانفجار الثوري، ووراء هؤلاء تقف كل القوى المضادة للثورة العالمية منها والإقليمية. والأغلبية الشعبية لا تزال حائرة يطحنها التزييف والخداع الذي تمارسه النخبة السياسية للطبقة المهيمنة في النظام القديم– المستمر، وأجهزة إعلامها، والنجوم التي صنعت أمريكياً وغربياً وتم تجهيزها لتقوم بدورها في الوقت المناسب. وفي إثرها تسير قوى كانت محسوبة على القوى الوطنية والتقدمية تسعى فقط لتحسين شروط وجودها داخل النظام الرأسمالي الذي انفجرت الثورة في مواجهته.
ربما عبرت الفترة القصيرة الماضية عن هذا الواقع المر في مصر بشكل ملموس لا يحتاج إلى اجتهاد في التحليل والتعليل. ذلك أن الثورة تجري سرقتها منذ أيامها الأولى. إذ كيف نفسر الاستعجال غير المبرر لإنهاء المرحلة الانتقالية وإجراء الانتخابات البرلمانية دون انجاز المتطلبات والاستحقاقات الضرورية التي تفرض مرحلة انتقالية ملائمة للتهيئة لانجاز مهام وأهداف الثورة. إذ تتم عملية حرق لهذه المرحلة. وتدفع البلاد إلى انتخابات متعجلة تسفر عن سلطة لا يمكن أن تكون ثورية، وفي إطار بنية طبقية لم يحدث فيها أي تغيير. إذ أنها البنية الطبقية نفسها للنظام القديم، تعكس نفسها في شكل نفوذ لم يتراجع. بل قد يزيد. وتحت وابل من القصف الإعلامي الذي يروج لمغالطة خطيرة تقوم على اختزال النظام الرأسمالي المتوحش القديم في شخص الرئيس المخلوع وبعض أعوانه. وإبعاد الاهتمام عن حقيقة أن النظام القديم أكثر سعة بكثير جداً من الدائرة الضيقة للحزب المنحل الذي كان يستأثر بالسلطة السياسية.
لايمكن عزل ما يجري من فوضى عارمة في الشارع ومن تفشي الجريمة بشكل لا سابق له من قتل وخطف لأطفال وكبار وسرقة بالإكراه في ظل تراخي أمني شديد، وفساد يتعاظم، وتعصب ديني وفتنة طائفية يجري تعزيزها بإرهاب ديني وجسدي تحت شعار تطبيق الشريعة المقصود بها فقط تطبيق الحدود وقطع الأيدي والأرجل من خلاف والجلد وعذاب القبر والثعبان الأقرع وأكل لحم الجن وتحريم الديمقراطية باعتبارها كفراً، والفوضى العارمة في السوق والارتفاع المذهل للأسعار. لايمكن عزل إنتاج هذا المناخ عن إرادة وتخطيط يقصي تماماً التناقضات في المجتمع التي أدت إلى الانفجار الثوري في 25 يناير. وعلى هذه الخلفية يتم إسقاط كامل للأهداف الوطنية والاجتماعية– الاقتصادية والديمقراطية، بتواطؤ صريح من قوى كفت عن اتخاذ المواقف الجذرية رغم جذورها الوطنية والتقدمية لا يتجاوز سقف مواقفها وتحركها مجرد السعي لتحسين شروط وجودها داخل النظام الرأسمالي التابع العميل وليس إسقاطه.
انكشف المستور لدى التحضير للانتخابات. قامت تحالفات عدة أبرزها ما سمي «التحالف الديمقراطي» الذي انضوت تحته في البداية أحزاب وجماعات وائتلافات كثيرة غاية في التنوع والتناقض. أقحم فيه الأخوان الأحزاب السلفية رغم أنف الجميع. وبالتالي فقد ضم أقصى اليمين الفاشي مع اليسار الماركسي مع الناصريين مع الليبراليين وقوى ديمقراطية أخرى. فكان اسمه– ولا يزال– أحد أعاجيب الحياة السياسية المصرية. لكن جانباً كبيراً من هذا التحالف العجيب قد انفرط لأسباب لا علاقة لها بالسياسة أو التوجه الفكري، وإنما لخلافات حادة نشبت لدى ترتيب القوائم الانتخابية وفي الدوائر الفردية. إذ عمل الإخوان والسلفيون على الاستئثار بالمواقع المتقدمة في القوائم بحيث يحوزون على أغلبية المقاعد بعكس ما روجوا له في السابق من أنهم لا يريدون الأغلبية البرلمانية، وسار السلفيون على نفس النهج، واحتدمت المعارك لحد خروج عدد كبير من مكونات هذا التحالف. بل خرجت منه أحزاب سلفية. وقامت تحالفات انتخابية أخرى بنفس نهج التحالف المذكور، أي بجمع قوى لا يجمعها الحد الأدنى من وحدة الأهداف الطبقية– السياسية، وبطبيعة الحال تفتقد الحد الأدنى من التقارب الفكري. وتجاوزت الأمور كل ذلك لتضم العديد من قوائم التحالفات أو الأحزاب عناصر من الحزب الوطني المنحل. بل وقامت أحزاب جديدة وتشكلت قوائم انتخابية لقوى الحزب المنحل (الحاكم سابقاً).
أسقطت النخبة بكل مكوناتها أهداف الثورة. وتجسد جهدها فقط في التجاذب من أجل اقتسام كعكة السلطة، كل حسب إمكانياته المالية والبشرية. وتخلت أقسام النخبة ذات الماضي الوطني والتقدمي عن شعارات حملتها في الماضي مكتفية بمواقف إصلاحية لنظام لا يمكن إصلاحه. ربما تضيء لنا الحقيقة الساطعة والمعروفة عن تمويل سخي وغير مسبوق من الامبريالية الأمريكية والأوربية، ومن مشيخات الخليج ما كان يبدو غامضاً بالنسبة للاستعجال الشديد الذي صبغ سلوك النخبة السياسية فهى نخبة تعودت المقايضة دون أي حرج.
شكوك تساور الكثيرين لأسباب موضوعية بأن هذه الانتخابات التي أجهدت النخبة نفسها في الإعداد لها قد لا تتم، في ظروف الفوضى العارمة المصنوعة، والتي تستهدف إلهاء الشعب وإبعاده عن أهدافه التي ثار من أجلها. فقد يرتد السحر على الساحر.
يظهر ويتجلى المأزق الناتج عن غياب طليعة ثورية حقاً بعد أن انصرفت القوى الأوسع من القوى الوطنية والتقدمية من مواقعها. بل ومشاركتها وضلوعها في الجريمة الأكبر وهي إقصاء الطبقة العاملة والفلاحين وقوى الكادحين وهم أصحاب الفعل الثوري في طول مصر وعرضها وهم مع الجيش من أجبروا مبارك على التنحي. ذلك أن إقصاء الشعب المصري عن المشهد السياسي ممن لم يسهموا في الثورة هو الجريمة الأكبر، وهو السبب في الخلل القائم في ميزان القوى في البلاد. لكن الثورة التي لم يغلق ملفها بعد. تتطلب عملاً يبقي على جذوتها مشتعلة، تمهيداً لتطوير الانفجار الثوري إلى ثورة كاملة الصفات والملامح. أي تحقيق التغيير الجذري في البلاد. وحيث تبدو النخبة السياسية المصرية فاقدة لأي إرادة أو أي رغبة في اصطفاف لعمل نضالي بحكم نضوب أي إرادة ثورية لديها. فإن الإمكانية التي يمكن أن تتحول إلى واقع هي بصياغة اصطفاف جديد على أساس طبقي بعيد عن النخبة السياسية التي لم تعد الطبقات الثورية تحمل لها أي قدر من الاحترام أو الثقة. هذه الإمكانية قابلة للتحقق لأن الطبقة العاملة وكادحي مصر قد تعلموا بتجربتهم الذاتية في هذه المرحلة العصيبة والحاسمة من تاريخ الوطن أن الأمر فيما يخص الأهداف الطبقية والوطنية لا يجب أن يترك للآخرين. فالمصير لابد أن يكون بيد أصحابه. وهكذا يمكن أن تتهيأ الفرصة للثورة الجديدة تحت شروط أفضل تضمن تحقيق أهدافها.