دلالات إسقاط الطائرة التركيَّة
إسقاط الطائرة التركيَّة مقابل السواحل السوريَّة، حدثٌ مهمّ، وله مغزى كبير وحاسم، ويفسِّر الكثير مِنْ أنماط التعامل الدوليّ مع الأزمة السوريَّة. فهذه هي المرَّة الأولى، منذ زمنٍ بعيد، التي تبدو فيها سماء بلدٍ عربيّ مصانة مِنْ أيّ اختراقٍ خارجيّ. ليس هذا فحسب؛ بل أيضاً، هذه هي المرَّة الأولى التي يُبدي فيها بلدٌ عربيّ هذا القدر العالي من الجرأة في الردّ على محاولة فجَّة، كهذه، للاقتراب مِنْ أجوائه واستباحتها.
ولا ننسى، هنا، أنَّ تركيّا عضو أساسيّ في حلف الأطلسيّ، وتحتضن، على أرضها، قاعدة كبيرة للقوّات الجوّيَّة الأمريكيَّة، هي قاعدة أنجرليك. وبالتالي، فإنَّ القرار، الذي أُسقِطَتْ الطائرة التركيَّة بالاستناد إليه، لا يمكن أنْ يكون قراراً عسكريّاً بحتاً وابن لحظته؛ بل من المؤكّد أنَّه قرار سياسيّ مُتَّخذ قبل ذلك بوقتٍ كافٍ، ويستند إلى تقويمٍ متأنٍّ للوضع المحيط بسوريَّة واحتمالاته وقدرات الخصوم والأعداء الموجَّهة ضدَّها، وما هي السبل المناسبة للتعامل مع أفعالهم وردود أفعالهم التي تستهدفها.
لكن، من المؤكّد، أيضاً، أنَّ تركيّا ليست هي المقصودة بذاتها، بهذا الردّ السوريّ القويّ؛ بل، كما هو واضح، توجيه رسالة حازمة لكلّ مَنْ لا يزال يراهن على إمكانيَّة اتِّباع الأسلوب نفسه، الذي استخدمه حلف الأطلسيّ للسيطرة على ليبيا، كي يضع يده أيضاً على سوريَّة. ويبدو أنَّ هذه الرسالة فُهِمَتْ جيّداً مِنْ قِبَل أردوغان؛ فكان ردّه على الحادث هادئاً ومتعقِّلاً، على نحوٍ يتناقض، إلى حدٍّ بعيد، مع اللهجة الاستعلائيَّة المتشدِّدة التي عهدناها في حديثه عن سوريَّة خلال الأشهر الماضية. وقد بلغ هذا التعقّل حدَّ أنْ تطلب السلطات التركيَّة الإذن من السلطات السوريَّة كي تسمح لها بإرسال سفن للبحث عن أجزاء الطائرة المُسْقَطَة وطاقمها. وقد باشرتْ هذا البحث، لاحقاً، سفنٌ تركيَّة وسوريَّة، جنباً إلى جنب.
القدرات العسكريَّة السوريَّة، التي كشفها هذا الحادث، حصلتْ عليها سوريَّة مِنْ روسيا خلال الأشهر الماضية؛ الأمر الذي لم يعد خافياً على المراقبين والمتابعين المدقِّقين. ومؤخّراً، تأكَّد هذا على لسان أكثر مِنْ مسؤول (سياسيّ وعسكريّ) روسيّ. وهو ما أدَّى، إلى جانب عوامل أخرى، في مقدِّمتها الشعب السوريّ، إلى استبعاد تكرار عمليَّة حلف الأطلسيّ الليبيَّة في سوريَّة، ولجوء الحلف، بدلاً مِنْ ذلك، إلى الاعتماد، بالكامل، على المجموعات المسلَّحة وإمدادها بأحدث أنواع الأسلحة والمعلومات وتكنولوجيا الاتِّصال المتطوِّرة والدعاية الكثيفة والدعم السياسيّ. لكنَّ هذا السيناريو، أيضاً، يتَّجه إلى الفشل، كما هو واضح؛ لذلك، رأينا، مؤخّراً، عدداً من العواصم الأطلسيَّة، يتراجع عن مواقفه السابقة المتشدِّدة ويبحث عن نقاط مشتركة مع الموقف الروسيّ، الذي ظلّ ملتزماً بثوابته، وهي: ضرورة احترام القانون الدوليّ، الذي ينصّ على عدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى؛ وإتِّباع الحوار والطرق السلميَّة.. لحلّ المشكل السوريّ؛ وتالياً، اعتبار مصير النظام السوريّ، شأناً يقرِّره الشعب السوريّ، وحده، وليس أيّ طرفٍ آخر خارجيّ.
فلدى زيارة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، منذ مدَّة قريبة، لألمانيا، بدا واضحاً، في المؤتمر الصحافيّ الذي عقده بالاشتراك مع المستشارة الألمانيَّة ميركل، أنَّ الأخيرة استبعدت الإشارة، في كلامها، إلى النقاط الخلافيَّة مع روسيا، بشأن سوريَّة، وأكَّدتْ، للمرَّة الأولى، على دعم الحلّ السلميّ لهذه المشكلة. وهذا نفسه، حدث في لقاء بوتين مع الرئيس الأمريكيّ أوباما؛ حيث غابت، عن هذا اللقاء، المواقف الأمريكيَّة الخلافيَّة المعروفة، وبدلاً مِنْ ذلك، أكَّدا، معاً، على الحلّ السلميّ.
وفي نهاية الأسبوع الماضي، قال وزير الخارجيَّة الروسيّ، سيرغي لافروف: إنَّه بناء على نتيجة الوضع في سوريَّة سيتحدَّد شكل النظام الدوليّ الجديد. وهذا صحيح، تماماً؛ فملامح النظام الدوليّ متعدِّد الأقطاب بدأت تظهر، بوضوح، على هامش الأزمة السوريَّة وفي المواقف المختلفة منها.