الشارع المصري.. بلورة جديدة للقوى السياسية
يبدو أن الشارع المصري يقود نفسه من جديد إلى ثورة تحمل شعارات أعمق من شعار« إسقاط الريس» وهو حالة جديدة من الفرز السياسي للشارع المصري، وتحول طبيعي لمسار الحراك الشعبي الذي بلغ ذروته في ثورة 25يناير ولم ينته حتى الآن، بل بدأت تظهر في زواياه نوى لتشكيلات سياسية جديدة،
قد تكون حجر الأساس في نهضة الجماهير الشعبية المصرية بعد عقود من التهميش الإقتصادي والتحييد السياسي والوطني وبعد قيام الإخوان بالإلتفاف على الثورة وتصدر القرار السياسي في مصر. وفي هذا السياق لوحظ في الإسبوع الماضي الإعلان عن تشكيل التيار الشعبي المصري، والذي أصدر بيانه السياسي رافعاً شعارات حول تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية والتوزيع العادل للثروات و تعميق مفهوم الحريات والديمقراطية، والإهتمام بقضايا الجماهير الشعبية الاقتصادية أولاً والسياسية ثانياً وطرح مقولة إعادة الدورالوطني الحقيقي لمصر في المنطقة العربية والقارة الأفريقية من جديد، والعمل على تفعيل التربية والتعليم، وإحياء التراث ونبذ التعصب الديني واتخاذ موقف واضح تجاه القضية الفلسطينية والموقف الأمريكي من المنطقة العربية، وتبني النهج المقاوم علانية والإعتماد على الشباب المصري بصورة أساسية، من خلال جملة المهام الخمس التي ركزت على الحلول الخدمية عبر إنشاء شركات تعاونية وحل أزمة البطالة، والتركيز على الثقافة والدين والقانون الإنتخابي.
وبغض النظرعن الخلفية الأيديولوجية لمؤسسي هذا التيار وهو التيار الناصري والذين لم يمثلوا القوى الأكثر جذرية في المجتمع المصري بل مثلوا ممصلحة البرجوازية الوطنية إضافة إلى التوفيق مع ممصلحة فئات الفلاحين والطبقة العامة مما أدى في وقت سابق إلى عودة القوى البرجوازية التابعة للسيطرة في مصر وهو ما أدى في الواقع إلى فشل الدولة المصرية بسبب برجوازيتها التي أعادت ارتباط مصر سريعاً بالإمبريالية العالمية التي تعيش حاليا حالة تراجع بسبب أزمتها الاقتصادية هذا من ناحية ومن جهة أخرى بسبب ضعف بنيتها أصلاً .
يمكن الإشارة إلى العديد من النقاط التي تضع هذه التجربة موضع دراسة، إذ أن توقيت إعلان التيار يدل على نفاد صبر المصريين حيال سياسة الحكومة الجديدة تجاه قضايا مهمة مثل قضية سيناء التي راح ضحيتها أبناء مصر أنفسهم، وكذلك المشاكل الاقتصادية المستعصية، ومحاولة جر مصر إلى نزاعات طائفية ،وإطلاق يد السلطات الأمنية في مصر بصورة أعنف من الصورة التي كان عليها أيام مبارك بحجة حماية الثورة من الثورة المضادة .
إن تشكل هذا التيار له دلالاته العميقة على طبيعة الحراك الشعبي في مصر ومزاج الجماهير فقد عكست ولادته رفض الشارع في مصر للطابع الإسلامي للنظام الجديد، وحددت موقفها الرافض لسياساته التي عبر عنها الرئيس محمد مرسي تجاه القضايا الوطنية وخصوصا الموقف من الولايات المتحدة و»إسرائيل».
كما بين إدراك القوى السياسية في مصر ضرورة الإعتماد على القاعدة الشعبية لقيادة الحركة السياسية وتبني قضاياها الخاصة والعامة وهو الأمر الذي أدى بالبيان التأسيسي مناقشة العديد من القضايا التي تشكلت في مرحلة مابعد الثورة كنتيجة لمحاولة تيار الإخوان التفرد بالسلطة والقرار السياسي فقد أكد البيان ضرورة فصل السلطات وخصوصا السلطة العسكرية بعد التنبه إلى دورها في حماية ثورة أكتوبر،وبعد سلسلة القرارات التي أصدرها مرسي للسيطرة على المجلس العسكري، عبرتعيين ضباط مقربين من الإخوان وضرورة استقلال القضاء والإعلام اللذين يشكلان سلطة الشعب على النظام، والتأكيد على سيادة الدستور.
لقد أدى تراجع القوى اليسارية والقومية في مصر منذ انتهاء المرحلة الناصرية إلى تشكل فراغ سياسي ملأته قوى الإسلام السياسي التي كانت ولاتزال مدعومة من الولايات المتحدة، إلا أن تولي هذه القوى للسلطة والقرار قام بكشف جوهرها الحقيقي القائم على تنفيذ الأجندة الأمريكية السياسية والاقتصادية في المنطقة، وتحقيق أمن إسرائيل، واتباعها أساليب حكومات مبارك نفسها في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للشعب المصري، الأمر الذي اقتضى إعادة تشكيل قوى جديدة مناهضة لها تحمل رؤى وإيديولوجيا وطنيةوهو أمر لم يكن جديداً على شعوب المنطقة.
يمكن القول إن الجماهير المصرية تحاول عند الإلتفاف حول هذا النوع من التيارات السياسية إعادة التوازن للشارع المصري وتشكيل قطب سياسي يوازي القطب الإسلامي المسيطر ويرفضه، وبالتالي قد نجد أنفسنا أمام تحالف جديد يضم أطيافاً مختلفة من الشعب المصري، وهو ماقد يعيد مراحل مضيئة من التاريخ المصري القريب على الرغم من أن هذا التشكيل السياسي هو تشكيل أولي إلا أنه يفتح باب الصراع على القضية الاقتصادية والوطنية .
لقد اقتربت هذه الحالة من النموذج الناصري في طرح قضايا المستضعفين و الاعتماد على القوى البرجوازية وهو مانص عليه البيان صراحة بالإضافة إلى حديثه حول الإنطلاق من القاعدة الدينية والذي تشكل أحد أهم مهام التيار، وهذا مايشيرإلى تنبه القوى المؤسسة للتيار إلى خلو الشارع المصري من قوى سياسية تحمل برامج سياسية خاصة بها بما فيها القوى اليسارية منها، وبالتالي العمل على إحتوائها وضمها تحت لواء التيار.
تكمن الأهمية في إعلان هذا التيار في إلقاء الضوء على التحول الجديد في وعي الشارع المصري لطبيعة الثورة التي قام بها وإدراك ماهيتها وإدراك ضرورة تعميق أهدافها وأدواتها وبالتالي تعميق حالة الفرز السياسي، وتحييد نضال الشعب عن الصراعات الثانوية، والوصول إلى قوى ناضجة في قراءتها السياسية للواقع، وأكثر تطويرا في أدواته وقدرته على قيادة الجماهير وهو ماقد يعني تحولاً هاماً في بلورة قوى معارضة جدية للحكام الجدد.