الاصطياد في المستنقع اللبناني
كان لافتاً لمراقبي الحدث السوري منذ بداية تفجره في آذار 2011 هو صدور بعض الشعارات المناهضة لحزب الله اللبناني بشكل غير مفهوم في البداية وبما يخدم الأجندات الإقليمية والدولية المعادية، وصولاً إلى اتهامه بدور مباشر في الصراع الدائر، وهو اتهام سهلّه للأسف الأداء السياسي غير الموفق وغير المتوازن لقيادات الحزب في قراءتهم للمشهد السوري.
ولكن قبل ذلك ربما كانت اتهامات بعض التيارات السياسية السورية وخاصة تلك المعارضة المحسوبة على الغرب قبل الأحداث مؤشراً فاقعاً للاتهام السياسي المراد توظيفه في الصراع الدولي لمصلحة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة.
اليوم ترتفع الحرارة اللبنانية على وقع حدثين متزامنين تقريباً:
الأول- هو اتهام وزير الداخلية البلغاري للجناح العسكري لحزب الله بتفجير بورغاس في تموز الماضي والذي أدى حينها إلى مقتل خمسة سياح «إسرائيليين».
الثاني- استهداف الجيش اللبناني في عرسال البلدة الحدودية التي اشتهرت بإيوائها للنازحين السوريين، من جهة وإيوائها للمسلحين المنطلقين للقتال فيها لتشتهر بالتالي بغزوها من التيار السلفي التابع للحريري.
يضاف إلى هذين الحدثين مجموعة من الأحداث السابقة كان أهمها اغتيال رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللبناني وسام الحسن .
وفي اللحظات السورية الحرجة يسعى الغرب لاستخدام كل الأوراق بطبيعة الحال بما فيها الاصطياد في المستتنقع اللبناني، لكن السؤال الذي يتطلب إجابة حاسمة هو عن ماهية القرار الذي اختاره الغرب الآن، فهل هو ماض في تفجير لبنان كونه صاعقاً ضخماً في المنطقة، أم أنه يختار إعادة ترتيب الداخل اللبناني ليكون البقعة القابلة للانفجار في لحظات أكثر ملاءمة لمصالحه.
علينا هنا أن نعيد التأكيد على فكرة مفتاحية ومفادها أن اشعال لبنان هو قرارٌ دولي وليس قراراً محلي الصنع فقط أو إقليمياً محضاً، وهنا علينا أن نؤكد أيضاً أن أي قرار امبريالي بإشعال لبنان يتطلب حضوراً وتنسيقاً أمريكياً وفرنسيا قوياً وهو مالا يتوفر حالياً نتيجة انهماكهما بأزماتهما الاقتصادية، والعسكرية في مواقع أخرى تبدو مضمونة بشكل أكبر من ناحية النتائج والمآلات. من هنا نفهم استعجال الغرب للتدخل في ليبيا ومالي بشكل مباشر مقابل العمل على التدخل غير المباشر في الساحة السورية والعراقية والمصرية أيضاً.
من الضروري الانتباه إلى أن إشعال لبنان حالياً في ظل وجود حالة حزب الله ورغم ضعف سنده السوري، سيؤدي إلى أحد إحتمالين، إما سيطرة حزب الله على الساحة اللبنانية بشكل كامل وضرب الحوامل السياسية لقوى 14 اذار الأمريكية والمتنامية في الظلام، أو قيام الحزب بفتح المعركة على العدو الصهيوني. فالحزب يعي تماماً أن مركز هذه المعركة هو قوى الإمبريالية، و«إسرائيل» الوكيل الأبرز للغرب الإمبريالي في منطقتنا.
يرى البعض أنه لا أفضل من هذا التوقيت لإشعال لبنان، وأن هذه الأحداث المتصاعدة والمتواترة ومع اقتراب نضوج حل سياسي في سورية، تشكل صواعق مثالية للتفجير في الوقت الحرج. فاستهداف الجيش اللبناني واستثمار سلفيي الحريري لفقراء عرسال، ومحاولة الإيحاء بأن «طائفة» العرساليين مظلومة وهي تواجه تمدد طوائف أخرى يمثلها حزب الله وجمهوره، كل ذلك هو رواية مفتعلة لإشعال الفالق «السني- الشيعي»، لكنها كما حادثة اغتيال وسام الحسن تبدو ضرورية لكنها غير كافية.
ويبدو أن هذه التفاصيل هامة إلى حد بعيد في ترتيب المنطقة ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير وفقاً لمفهوم القوة الناعمة أكثر من كونها معدة للتفجير الآني، فالمراد عملياً هو استمرار الضخ الفكري اليومي حتى يُصار إلى توحيد كل طائفة عمودياً، وذلك بتكريس رموز محددة وخاصة، وقضايا «نضالية» موحِّدة تجعل من كل طائفة قابلة للاستيعاب في اتجاهٍ ضمن المشروعٍ الأمريكي. إن هذا الضخ يبرمج مجموع الشعب للاصطفاف حول مرجعيات طائفية لاعلى قضايا وطنية جامعة.
في الوقت ذاته يتم العمل على تكريس إعطاء حزب الله للصبغة الطائفية بما يبرر وجود طائفة «مسلحة» مقابلة، وإن من أهم مساعي الغرب في هذا الاتجاه هو إبعاد حزب الله عن المقاومة وضرب كل أسلحته المعدة لاستهداف الصهاينة. إن هذه الإجراءات لا تكتسب أهمية عسكرية وحسب بل تكتسب بعداً سياسياً يتمثل في محاولة استيعاب حزب الله ضمن الفالق الطائفي سيئ الصيت. وإن الاتهام البلغاري (الذي رفضته المعارضة البلغارية واعتبرته استثماراً سياسياً من الحزب الحاكم لصالح «إسرائيل») والذي استقبلته قوى 14 آذار بالتبريكات يأتي في هذا السياق، كما أن محاولة التهجم على سلاح الحزب من زاوية الحدث السوري تسير في السياق ذاته.
لايبدو أن الساحة اللبنانية آيلة للهدوء في الأيام القادمة كما أنها على الأرجح لن تذهب إلى انفجار دراماتيكي، لكنها من المؤكد ستبقي على ذلك الحد التوتر منخفض الشدة الكفيل بإبقاء الفوضى والاضطراب وعدم إنتاج دولة بالمعنى الوطني، ولامجال للتصدي لهذه الصواعق إلا عبر فتح المزيد من المعارك الوطنية والطبقية الجامعة، والمصلّبة للمجتمع بوجه الخيارات الأمريكية.