الولايات المتحدة في معركة «بورودينو»
عندما بدأ التحول النوعي في العلاقات المصرية الروسية بعد الإطاحة بحكم الإخوان في مصر، أراد البعض قراءة هذا التحول على أنه مناورة من الجيش المصري لابتزاز الأمريكي
وفي الصورة السابقة خطآن أساسيان، الأول هو الفهم القاصر للنوايا الذاتية للقوات المسلحة المصرية. فمن الحماقة أن يخضع الجيش المصري الذي وعى إلى حد بعيد القدر الموضوعي الناتج عن الحركات الثورية العربية، فما كان منه إلا الوقوف قولاً وفعلاً إلى جانب أكبر ثورتين في الشارع العربي «25 يناير و30 يونيو» وحمايتهما من الإنزلاق في أي انحرافات، وهذا يعني ضمناً أنه على مسافة واضحة، تزداد كل يوم، من مساعي الأمريكي في ضرب الحراكات الثورية وحرفها عن مسارها.
الدور الروسي في اللحظة الحاسمة
الخطأ الثاني هو الرؤية السطحية لجدلية العلاقة المصرية الروسية في هذه اللحظة وإمكانات تطوراتها. حيث لا يمكن فهم التوجه المصري نحو روسيا على أنه رغبة طرف واحد، فبالمعنى العملي كان للروس رؤية استراتيجية هامة للحظة مفصلية من تاريخ مصر. فدفعوا العلاقة إلى آفاق مفتوحة منطلقين من محدد أساسي وهو تطويق الولايات المتحدة في أماكن نفوذها التاريخية. فعلى سبيل المثال زار مرسي إبان حكمه روسيا وأبدى استعداده للتعاون لكن الروس يعرفون جيداً أن الإخوان لا يرون بديلاً عن الولايات المتحدة كراعٍ دولي لمصر، وعلى ذلك لم يتمخض شيء هام عن تلك الزيارة. على العكس من ذلك كان واضحاً ترحاب الروس بالثورة المصرية التي أطاحات بحكم الإخوان في مقابل الموقف الأمريكي المتخبط من ثورة 30 يونيو والذي لم يستوعب سقوط الإخوان حتى اللحظة.
اليوم يرحب الرئيس بوتين بترشيح السيسي رئيساً لمصر، رغم أن السيسي لم يعلن الترشح الرسمي بعد، لكن الرسالة وصلت. استنفرت الخارجية الأمريكية سريعاً للرد قائلة: «إن تحديد رئيس مصر هي مهمة الشعب المصري»!!.
تطويق النفوذ الأمريكي في أوكراينا
في أوكرانيا أيضاً تطوق روسيا الولايات المتحدة فتبدي مرونة عالية في التعامل مع ملف المعارضة إلى درجة قبولها بأن يكون رئيس الحكومة من المعارضة المحسوبة على الغرب، لكن هذه المرونة الروسية أعادت الكرة إلى ملعب الغرب، فانقسم بين أمريكيين وأوروبيين على تسمية رئيس الحكومة. وصل التناقض إلى حد تراشق التصريحات بين الاتحاد الأوروبي الذي رفض تدخل الولايات المتحدة في شؤونه وبين الخارجية الأمريكية التي سُرّب عنها تسجيل صوتي على لسان فيكتوريا نولاند نائبة وزير الخارجية الأمريكية فيه شتائم بحق حلفائهم الأوروبيين. كانت النتيجة العمل الغربي على إحراق أوكرانيا الذي دفع بوتين إلى اتصال مع ألمانيا وبريطانيا مفاده: وقف العنف فوراً!!.
تركيا.. والضربة القادمة؟!
التحول الهام والحاسم في المرة القادمة قد يأتي من تركيا، الدولة التي تعاني من تناقضات داخلية وخارجية تتزايد يومياً بفعل سياسات حزب العدالة والتنمية في إقحام تركيا بأجندات أمريكية خاصة في الملف السوري. كانت النتيجة اهتزاز كبير في الاقتصاد التركي دفع كميات هامة من رؤوس الأموال الأجنبية إلى مغادرة البلاد، واحتجاجات داخلية فيها المطلبي والثوري، إضافة إلى محاولات أمريكية للضغط على أردوغان أكثر عبر بعض أدواتها التاريخية كفتح الله غولين حليف أردوغان السابق وربيب واشنطن التاريخي. هنا جاء الدور الإيراني المتناغم مع الروس في الانفتاح على الجار التركي في دور بدا إنقاذياً لكنه سيكون مكلفاً للأمريكي وأدواته في تركيا، فتسارع التطورات الإيجابية للعلاقات التركية الايرانية، والتركية الروسية، قد يكون حاسماً بالنسبة للوجود الأمريكي في المنطقة.
يدفع الروس الأمريكين لاستنفاذ كل خياراتهم في ساحات الصراعات الدولية، ثم يقومون بتطويقهم بعد إنهاكهم،على شاكلة معركة «بورودينو»، التي جرت في مواجهة الفرنسيين إبان الحرب الوطنية في روسيا عندما شن نابليون حربه في عام 1805 ضد أعظم ثلاث قوى أوروبية آنذاك وهي: بريطانيا والنمسا وروسيا، ليصل للحدود الروسية في حزيران عام 1812، وزحف نابليون وصولاً لتخوم العاصمة موسكو حيث وقع النزال الحاسم بين الجيشين الفرنسي والروسي في شهر أيلول عام 1812 بالقرب من قرية «بورودينو» في ضواحي موسكو. هكذا شبهها سيرغي لافرورف وزير الخارجية الروسي لبعض من التقاهم في الآونة الأخيرة.