محافظة دمشق... حين تُصادَر اللقمة باسم «التنظيم»!

محافظة دمشق... حين تُصادَر اللقمة باسم «التنظيم»!

لم تعد حملات المحافظة على البسطات إجراءً تنظيمياً يمكن تفهّمه أو الدفاع عنه، بل تحوّلت إلى هجوم مباشر على لقمة عيش آلاف الأسر، وإلى سياسة عقابية تطال أفقر فئات المجتمع تحت عناوين براقة مثل «المكافحة» و«إزالة المخالفات».

فالمسألة لم تعد إزالة دفوف خشبية بسيطة أو شبكات معدنية خفيفة تشغل حيزاً من الرصيف، بل وصلت إلى مصادرة البضائع نفسها؛ أي مصادرة رأس المال، والرزق، ونتاج أيام طويلة من التعب، بل ومصادرة أموال استُدِينت أصلاً لتأمين هذه البضاعة. هنا لا نتحدث عن ضبط مخالفة، بل عن تجريد الإنسان من آخر ما يملك.
فأصحاب البسطات ليسوا فوضويين بالفطرة، ولا هواة احتلال أرصفة. هؤلاء هم نتاج واقع اقتصادي خانق، وبطالة متفشية، وغلاء معيشي لم يترك لهم خياراً آخر.
فمن يقف على بسطة يقف لأنه مُجبَر، لأنه طُرد من سوق العمل، أو لأن الأبواب أُغلقت في وجهه واحداً تلو الآخر، ليجد في الرصيف ملاذاً أخيراً، لا امتيازاً ولا تعدّياً.
العمل على البسطات عمل شاق ومهين للبدن قبل أي شيء آخر. ساعات طويلة تمتد من الصباح حتى المساء، تحت شمس لاهبة صيفاً وبرد قارس شتاءً، مقابل أرباح بالكاد تكفي لسد جزء من متطلبات المعيشة.
لا ضمان صحي، لا أمان وظيفي، لا دخل ثابت. ومع ذلك، يُلاحَق هؤلاء وكأنهم خطر عام، وتُصادَر بضاعتهم وكأنها غنيمة حرب.
الأخطر من المصادرة ذاتها هو غياب أي بديل. فالمحافظة التي تشن هذه الحملات لم تقدّم أسواقاً منظّمة، ولم تخصّص أماكن بديلة، ولم تمنح رخصاً مرنة تراعي الواقع، ولم تفتح باباً واحداً للعمل المشروع. بل على العكس، تلاحق البائع من شارع إلى شارع، وتدفعه إلى خسارة جديدة في كل مرة، حتى يصبح العجز والجوع هما النتيجة الحتمية.
أي منطق هذا الذي يُجرّم الفقير لأنه يحاول العيش؟
وأي عدالة هذه التي تطبّق القانون على من لا يملك سوى الرصيف، بينما تُترك أسباب الفوضى الحقيقية دون معالجة؟
كيف يُطلب من إنسان الالتزام بالنظام فيما يُحرم من الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة؟
نعم، تنظيم عمل البسطات ضرورة لا خلاف عليها، ومعالجة سلبياتها أمر مطلوب، سواء من حيث إشغال الأرصفة أو التأثير على الحركة أو الشكل العام. لكن التنظيم لا يكون بالقوة، ولا بالمصادرة، ولا بسحق الضعفاء. التنظيم الحقيقي يبدأ بالاعتراف بأن هؤلاء عمال، لا مخالفون بالفطرة، وبأن حق العمل لا يقل أهمية عن حق التنظيم.
ما يجري اليوم هو سياسة قصيرة النظر، تتجاهل البعد الاجتماعي والإنساني، وتتعامل مع الفقر كجريمة، ومع الحاجة كذنب.
وفي ظل استمرار الوضع الاقتصادي الصعب وغياب فرص العمل، فإن هذه الحملات لن تُنهي ظاهرة البسطات، بل ستزيدها تعقيداً، وستدفع أصحابها إلى مزيد من الهشاشة واليأس.
إن إغلاق آخر منفذ للعيش بوجه المضطرين لن يصنع مدينة منظّمة، بل مدينة أكثر فقراً وغضباً.
فالمدن لا تُنظَّم على حساب كرامة سكانها، ولا تُدار بمصادرة أرزاقهم، بل بسياسات عادلة توازن بين النظام وحق الإنسان في أن يعيش... لا أن يُطارَد لأنه حاول النجاة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1257