دير الزور بعد السقوط... فرحة ناقصة وأزمات تتكاثر
شكّل سقوط السلطة السابقة لحظة أمل كبيرة لأهالي دير الزور، وفتح باباً واسعاً لتوقعات مشروعة بإنهاء التهميش، وبدء مرحلة جديدة من العدالة والتنمية. غير أن هذه الفرحة سرعان ما تراجعت، بعدما لمس الناس استمرار السياسات ذاتها، وأشكال الإهمال نفسها، فتغيير السلطة لم يرافقه تغيير في النهج أو في آليات الإدارة. فبقيت الملفات الثقيلة معلّقة، بل ازدادت تعقيداً، لتضع المدينة أمام أزمات مركبة تمسّ السكن، والبيئة، والطرق، والزراعة، والصناعة، والخدمات، والأمن، وحتى الرياضة، في مشهد ينذر بتداعيات اجتماعية واقتصادية خطِرة.
أزمة السكن... مأساة يومية بلا حلول
تُعد أزمة السكن من أشدّ ما يرهق أهالي دير الزور اليوم. فآلاف المنازل ما زالت مدمرة أو متضررة جزئياً، فيما يعجز أصحابها عن ترميمها بسبب الارتفاع الجنوني في أسعار مواد البناء وأجور اليد العاملة. أما الإيجارات، فقد وصلت إلى مستويات لا تتناسب إطلاقاً مع متوسط الدخل، ما دفع كثيراً من العائلات إلى السكن في منازل غير صالحة، أو إلى الاكتظاظ في بيوت الأقارب.
ويزيد من حدة الأزمة غياب أي مشاريع سكنية جدية، أو قروض ميسّرة، أو خطط واضحة لإعادة تأهيل المناطق والأحياء المدمرة جزءاً أو كلاً، إضافة إلى تعقيدات إدارية ومالية تجعل إعادة تأهيل منزل مدمّر حلماً بعيد المنال لمعظم السكان.
الأنقاض والنفايات...
فوضى تخنق المدينة
يبرز ملف الأنقاض والنفايات كواحد من أخطر مظاهر الإهمال المستمرة. فإزالة أنقاض شقة واحدة باتت تكلف نحو ثلاثة ملايين ليرة سورية، دون احتساب كلفة الترحيل، وهي أعباء تفوق قدرة مواطن لا يتجاوز راتبه مليون ليرة.
وعلى المدخل الجنوبي لدير الزور تتكدس تلال من الأنقاض عشوائياً على جانبي الطريق، تمتد إلى ما تبقى من الحزام الأخضر، بل وحتى إلى محيط المقابر. ويضاف إلى ذلك انتشار مكبات نفايات عشوائية يجري حرقها، ما يفاقم التلوث البيئي والصحي.
كما تنتشر تلال من الخردة وبقايا الآليات المدمرة، بما فيها العسكرية، التي جُمعت من داخل المدينة دون استكمال عملية ترحيلها أو إعادة تدويرها، رغم ما يمكن أن تحققه من فائدة اقتصادية في دعم تمويل عمليات إعادة التأهيل في المدينة.
الطرقات...من شرايين حياة إلى طرق موت
تحولت الطرقات في دير الزور إلى مصدر خطر يومي. فالطرق الخارجية، وعلى رأسها طريق دير الزور–دمشق، لم تخضع لصيانة حقيقية منذ سنوات طويلة، وتعرضت لدمار واسع، ما جعل الحوادث والضحايا أمراً شبه يومي، حتى بات الطريق يُعرف «بطريق الموت».
أما داخل المدينة، فغالبيّة الطرق إما مدمّرة أو مغلقة بالأنقاض، وحتى الطرق التي جرت صيانتها في الآونة الأخيرة افتقرت إلى المعايير الفنية، إذ جرى تزفيتها دون تسوية أو معالجة شبكات المياه والصرف الصحي، ودون مصارف للأمطار، ما أدى إلى غرق الشوارع وانتشار الوحول والمستنقعات.
الزراعة... تراجع سلة الفرات الغذائية
كانت دير الزور تاريخياً من أهم المناطق الزراعية في سورية، وخاصة للمحاصيل الاستراتيجية (القمح- الشعير- الذرة- القطن- الشوندر)، لكنها تشهد اليوم تراجعاً خطِراً في هذا القطاع، بشقيه النباتي والحيواني، فارتفاع أسعار المحروقات والأسمدة، وتضرر شبكات الري، وغياب دور الدولة وإنهاء الدعم، وسوء تسويق المحاصيل، كلها عوامل دفعت كثيراً من الفلاحين إلى ترك أراضيهم.
ويزيد الوضع سوءاً غياب خطط زراعية واضحة، وسوء إدارة الموارد المائية، ما يهدد الأمن الغذائي المحلي، والصناعات الغذائية وغير الغذائية المرتبطة بالإنتاج الزراعي، ويقوّض أحد أهم ركائز الاقتصاد في المحافظة وعلى مستوى البلاد.
الصناعة...اقتصاد مشلول وفرص ضائعة
تعاني الصناعة في دير الزور شللاً شبه كامل، إذ توقفت معظم الورش والمعامل الصغيرة والمتوسطة بسبب الدمار وارتفاع تكاليف الإنتاج، وانقطاع الكهرباء، وصعوبة تأمين المواد الأولية.
كما لم تُطرح أي رؤية حقيقية لإعادة اقلاع الصناعات والمعامل والورش أو تشجيع الاستثمار، ما أدى إلى فقدان آلاف فرص العمل، وارتفاع معدلات البطالة، ودفع الشباب نحو الهجرة أو الانخراط في أنشطة غير مشروعة.
الخدمات... تراجع يثقل كاهل الناس
يشكو السكان من تدهور حاد في الخدمات الأساسية. فالمياه بالقطارة وغير مستقرة بسبب تهالك الشبكات، والكهرباء شحيحة رغم التحسن النسبي فيها، والمرافق الصحية تعاني نقص الكوادر والتجهيزات، وغياب خطط إعادة تأهيل المدمر منها، فيما تفتقر المدارس إلى الصيانة والبيئة التعليمية المناسبة. وفوق كل ذلك ارتفاع نسبة التلوث بسبب الاستثمار الجائر للنفط، والتكرير البدائي، بالإضافة إلى إهمال عوامل النظافة وما يتعلق بجمع القمامة، كل ذلك ساهم في تردٍ كبيرٍ للوضع الصحي وهذا ما حمل الأهالي تكاليف ومعاناة كبيرة لا قدرة لهم بتحملها حتى فيما يتعلق بارتفاع أسعار المعالجة والدواء وفقدان أدوية القلب والأدوية السرطانية والنفسية، فارتفعت نسبة الوفيات ارتفاعاً كبيراً.
ويترافق ذلك مع ضعف الإدارة وغياب الرقابة، وانتشار الفساد، ما يضاعف شعور الناس بالظلم وفقدان الثقة.
نادي الفتوة... أيقونة رياضية في أزمة
يُعد نادي الفتوة رمزاً رياضياً لأبناء الفرات، لكنه يعيش اليوم أزمة عميقة نتيجة سياسات احتراف فاشلة، وتعاقب إدارات غير كفء. تجلّت الأزمة بهدر الأموال على مشاريع شكلية، كتحويل الملعب المعشّب إلى تارتان، مقابل غياب التمويل الحقيقي، وهجرة اللاعبين، وتهميش الكوادر الخبيرة من أبناء المحافظة.
الفلتان الأمني... الخطر الأكبر
يبقى الفلتان الأمني أخطر ما يهدد دير الزور اليوم، مع انتشار السلاح غير المنضبط، وتزايد جرائم القتل والخطف والسرقة وتجارة المخدرات، خصوصاً بين فئة الشباب، في ظل البطالة واليأس وغياب الأفق.
إلى أين تتجه دير الزور؟
إن ما تعيشه دير الزور اليوم هو نتيجة مباشرة لاستمرار السياسات القديمة بأدوات جديدة. ومع أن معاناتها جزء من معاناة السوريين عموماً، إلا أن حجم التهميش الذي تعانيه يفرض معالجة عاجلة وجذرية، سياسية واقتصادية واجتماعية.
وتتحمل السلطة الحالية، في المحافظة والمركز، المسؤولية الأولى عن وقف هذا المسار، والانتقال من إدارة الأزمات إلى حلّها، قبل أن تفرز هذه التراكمات نتائج خطِرة لا تُحمد عقباها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1257