الزراعة في دير الزور... من التهميش المتعمد والتراجع إلى القتل العمد
شهد القطاع الزراعي بشقّيه النباتي والحيواني تهميشاً متعمداً وتراجعاً مستمراً نتيجة السياسات الليبرالية التي اتبعتها السلطة السابقة، كرفع أسعار المحروقات ومستلزمات الإنتاج، ما أدى إلى زيادة التكاليف وعزوف الفلاحين عن الزراعة. وقد انعكست هذه السياسات على الفلاحين المنتجين والمستهلكين والاقتصاد الوطني الذي تشكل الزراعة جزءاً أساسياً منه، والأهم على الأمن الغذائي، وخاصة في إنتاج القمح وتربية الثروة الحيوانية. وكانت هذه السياسات واحدة من الأسباب المباشرة لانفجار الأزمة بدءاً من الأرياف، ثم تفاقمت مع اندلاع الأحداث عام 2011 واستمرارها حتى اليوم، فيما واصلت السلطة الحالية النهج ذاته وزادت من حدّته، إضافة إلى تأثيرات الظروف البيئية والجفاف المستمر.
واقع الزراعة في دير الزور
تعتمد الزراعة في دير الزور على الري من نهر الفرات بسبب موقعها في منطقة منخفضة الهطل المطري، ما يجعل تكاليف الإنتاج فيها أعلى من بقية المحافظات. وقد أسهمت السياسات السابقة برفع الدعم وزيادة أسعار مستلزمات الإنتاج في تهميش الزراعة، مما أدى إلى خروج مساحات واسعة من الخدمة ووصول بعضها إلى حالة «الموت السريري». أمّا في ظل السلطة الحالية فقد أصبح الواقع أكثر قسوة، ليس باستمرار السياسات القديمة فقط، بل بالتخلي الكامل عن دور الدولة، وهو ما يشبه «القتل العمد» للقطاع الزراعي، والأسباب كثيرة والأمثلة عديدة.
الوقائع تتكلم
1 – الأسباب
أبرز الأسباب هو التخلي التام عن دور الدولة ممثلة بالمحافظة ومديرية الزراعة، وغياب الدعم والخطط الزراعية الموسمية أو السنوية، إضافة إلى انعدام الإحصاءات، وترك أسعار مستلزمات الإنتاج من بذار وسماد وأدوية ولقاحات وأعلاف للسوق المتروكة للتجار دون رقابة. يضاف إلى ذلك عدم مطابقة كثير من المستلزمات للمواصفات، وظلم تسعير المحاصيل، وترك الفلاح لمواجهة الظروف البيئيّة وحده.
كما أدى تخريب محطات الضخ وقنوات الري وخنادق التصريف إلى خروج مساحات كبيرة من الخدمة. فقد تحولت خنادق التصريف إلى «خنادق عمياء» نتيجة تراكم الأتربة ونمو الحلفا والزل والأعشاب، وأصبحت بؤراً للحشرات والزواحف، في ظل غياب الصيانة والاستبدال. وتسببت سرقة مضخات آبار التصريف بارتفاع منسوب المياه، «فبجّت» الأرض وتملّحت، وتوقفت محطات الضخ المتبقية لعدم توفر الكهرباء أو المحروقات. أما من حاول الاعتماد على نفسه فقد تكبّد خسائر كبيرة بعد انخفاض الإنتاج إلى أقل من ربع المتوسط.
2 – الممارسات
على الرغم من كثرة شكاوى الفلاحين ومطالبهم بتوفير مستلزمات الإنتاج، إلا أن الردود كانت في أغلبها مجرد لا مبالاة واستفزاز. فقد سلم كثيرون محصول القطن قبل سقوط السلطة السابقة دون أن يقبض معظمهم قيمته، بينما قبض بعضهم جزءاً فقط لا يتجاوز ما حصل عليه 40%. ومع مجيء السلطة الحالية، رفضت الجهات المختصة استلام المحصول بالكامل، وكانت الردود أكثر فجاجة: «سوقوه أنتم أينما تريدون» أو «من يريد أن يزرع فليزرع على مسؤوليته».
كما تم توقيف الري في منطقة الصُّوَر في الشهر السابع بحجة الصيانة، رغم أن الصيانة تُجرى عادة في الشهر العاشر بعد انتهاء موسم القطن، ما أدى إلى موت المحصول وتكبّد الفلاحين خسائر فادحة.
3 – تكاليف الإنتاج
غياب مستلزمات الإنتاج من قبل الدولة أجبر الفلاحين على التعامل مع السوق السوداء سابقاً، والسوق «العلنية» حالياً، وكلاهما خارج الرقابة. وفيما يلي بعض الأمثلة على التكاليف:
دواء المكافحة (دريفلان): 35 ألف ليرة، يكفي لـ3 دونمات.
حراثة الدونم: بين 150 و250 ألف ليرة بحسب المنطقة.
تكاليف القطن
أجرة العاملة لتعشيب الأرض: 125 ألف ليرة يومياً، والدونم يحتاج أربع عاملات لمرتين في الموسم (نحو مليون ليرة).
أجرة العامل/العاملة في القطاف: 50 ألف ليرة، وأربع عاملات لمرتين (400 ألف ليرة).
سعر كيس القطن (الشل): 8500 ليرة.
انخفض الإنتاج بشدة: أحد الفلاحين زرع 12 دونماً فكانت المحصلة 650 كغ فقط (54 كغ للدونم).
تكاليف القمح
سعر طن بذار القمح الطري: 4,700,000 ليرة.
القمح القاسي: 5,000,000 ليرة.
كلفة السقاية للدونم: 500 ألف ليرة.
إنتاج الدونم الموسم الماضي: كيسان فقط (نحو 230 كغ).
الانعكاسات السلبية الخطِرة
إن هذا الواقع المرير للزراعة وللفلاحين سيؤدي إلى تفاقم الأزمة السورية في ظل ضعف الأمن والاستقرار، وستكون الانعكاسات الاقتصادية خطِرة، خصوصاً على الأمن الغذائي ومحصول القمح. كما ستزداد الأزمة الاجتماعية تعقيداً مع اتساع رقعة الفقر والبطالة وما يرافقهما من هجرة وانتشار للجريمة. وتتحمل السلطة الحالية المسؤولية المباشرة عن هذا الوضع، إذ لم تختلف سياساتها الزراعية عن السلطة السابقة بل فاقمتها، ويُعد ذلك شكلاً من أشكال «القتل المتعمد للزراعة»، خاصة مع غياب أي توجه جاد نحو حل سياسي شامل للأزمة السورية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1252