أزمة التعليم في الجزيرة السورية... صراع المناهج على حساب مستقبل الطلاب

أزمة التعليم في الجزيرة السورية... صراع المناهج على حساب مستقبل الطلاب

تتواصل في منطقة الجزيرة السورية أزمة التعليم التي باتت عنواناً صارخاً لاختلال المشهد العام في البلاد. فبعد أكثر من عقد على انفجار الأزمة واندلاع الحرب السورية، لا تزال العملية التعليمية تدفع ثمن الانقسام السياسي والإداري، وآخر تجلياته ما تشهده مدارس أبرشية الجزيرة والفرات للسريان الأرثوذكس من ضغوط ومحاولات لفرض مناهج غير معترف بها رسمياً.

المطران مار موريس عمسيح، مطران أبرشية الجزيرة والفرات للسريان الأرثوذكس، أكد في تصريحاته الأخيرة رفض الأبرشية القاطع لاعتماد أي منهاج لا يصدر عن وزارة التربية في دمشق، مشيراً إلى أن المدارس التابعة للأبرشية– التي يتجاوز عددها العشرين– تعتمد المنهاج السوري الرسمي المعترف به دولياً، وأن أي محاولة لفرض مناهج بديلة من قبل «الإدارة الذاتية» أو غيرها تمثل تهديداً مباشراً لمستقبل الطلاب وللتراخيص القانونية للمدارس.

وأوضح المطران أن الحوار مع مسؤولي «الإدارة الذاتية» استمر أكثر من شهر دون التوصل إلى نتيجة، حيث جرى طرح خيارين فقط أمام المدارس: منهاج الإدارة الذاتية أو منهاج «اليونيسف»، وكلاهما بلا ترخيص رسمي. ومع رفض الأبرشية، أقدمت الجهات المعنية في «الإدارة الذاتية» على طرد الطلاب من المدارس، ما أدى إلى توقف العملية التعليمية في معظمها واستمرار العمل الإداري فقط.

التعليم بين السياسة والمجتمع

أزمة التعليم في منطقة الجزيرة السورية ليست معزولة عن السياق العام للأزمة السورية، بل هي واحدة من الملفات البارزة على السطح التي تعكس عمق الانقسام السياسي والإداري والاجتماعي في البلاد. فالمناهج هنا لم تعد مجرد أدوات تربوية، بل تحولت إلى رموز للصراع على الشرعية والهوية.

بين من يتمسك بالمنهاج الرسمي باعتباره ضمانة للاعتراف الدولي بالشهادات، ومن يسعى إلى فرض مناهج جديدة تعكس رؤى محلية أو سياسية محددة، يجد الطالب نفسه ضحية هذا التجاذب، محروماً من حقه الطبيعي في تعليم مستقر ومؤهل لمستقبل واضح.

إن محاولة تسييس التعليم، وجعله أداة للتجاذب أو وسيلة لفرض الأمر الواقع، يشكل خطراً على النسيج الاجتماعي الذي لطالما تميزت به منطقة الجزيرة بتعدد مكوناتها القومية والدينية من عرب وكرد وسريان وآشوريين وأيزيديين وغيرهم.

تحييد التعليم عن بازارات السياسة

في ظل هذا الواقع، تتعالى الأصوات المطالبة بضرورة تحييد العملية التعليمية بالكامل عن بازارات السياسة، وعدم تحويل المدارس إلى ساحات لتصفية الحسابات أو فرض الأيديولوجيات. فالتعليم هو الركيزة الأساسية لأي مشروع وطني، وضمان استمرار تماسك المجتمع لا يكون إلا عبر نظام تعليمي موحد يراعي التنوع الثقافي واللغوي دون أن يمس وحدة الشهادة والمعيار الوطني.

ولذلك، فإن إعادة التعليم إلى مساره الصحيح تمر عبر حوار وطني شامل بين مختلف الأطراف، على قاعدة أن مصلحة الطلاب فوق كل اعتبار، وأن حقهم في تعليم معترف به ومضمون يجب أن يبقى خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه.

جوهر الأزمة أعمق من التعليم

رغم أن أزمة المناهج والمدارس هي إحدى الملفات الأكثر وضوحاً على سطح المشهد السوري، إلا أنها ليست سوى انعكاس لجوهر أعمق هو استمرار الأزمة السورية بكل تعقيداتها السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية.

إن تفكك المرجعيات وتعدد السلطات وغياب التفاهم الوطني يجعل من كل ملف– سواء في التعليم أو الصحة أو الاقتصاد– ساحة صراع مصغرة تعكس الانقسام العام. ولا يمكن الخروج من هذه الدوامة إلا عبر بوابة المؤتمر الوطني العام الذي يجمع كل السوريين على طاولة واحدة، وصولاً إلى دستور جديد ضامن لحقوق المواطنة المتساوية ويعيد بناء الدولة على أسس العدالة والمساواة والتنوع.

نحو رؤية وطنية جامعة

أزمة التعليم في منطقة الجزيرة ليست سوى جرس إنذار جديد يذكّر السوريين بضرورة العودة إلى المسار الوطني الجامع. فالتعدد في المكونات ليس تهديداً للوحدة، بل مصدر غنى يجب أن يُصان عبر مؤسسات تعليمية وطنية، تنفتح على التنوع دون أن تتخلى عن الثوابت.

إن مستقبل سورية لا يُبنى بالمناهج المتنازَع عليها ولا بسياسات الإقصاء، بل عبر توافق وطني جامع يجعل من التعليم رافعة للوحدة، لا ساحة للانقسام. وعندها فقط يمكن أن تعود المدارس من ميادين الخلاف إلى ساحات بناء الوطن.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1247